الرئيسة \  تقارير  \  سُحُب يلتسين التي تمطر في أوكرانيا

سُحُب يلتسين التي تمطر في أوكرانيا

07.03.2022
صبحي حديدي


القدس العربي
الاحد 6/3/2022
ليس من الإنصاف، بل لعله أقرب إلى الإجحاف، أن تُلقى على عاتق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كامل إشكالية روسيا المعاصرة، سواء على أصعدة داخلية اقتصادية واجتماعية وسياسية وحقوقية وإعلامية؛ أو على صعيد الطموحات الجيو – سياسية التي باتت تأخذ صفة تدخل عسكري تارة، أو إلحاق وضمّ واستتباع تارة أخرى. إنه، ليس من ريب كبير، الأكثر تحمّلاً لمسؤوليات قرارات الكرملين في هذه الملفات، والأعلى استعداداً لمجابهة العواقب الوخيمة خلف مغامرات جامحة على شاكلة ما فعل في جورجيا وشبه جزيرة القرم وأوكرانيا راهناً؛ لكنه أشبه بزارع به مسّ، مصاب بخلائط جنون العظمة وشهوة الهيمنة والتماهي المَرَضي مع القياصرة، أورثه آخرون بذار ما يخال أنه يحصد زرعه تباعاً.
وأغلب الظنّ أنّ تاريخ روسيا، وبالتالي تاريخ العالم إبان وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يحفظ للرئيس الروسي الأسبق الروسي بوريس يلتسين (1931-2007) تلك الصورة الأيقونية الشهيرة (في آب/ أغسطس من العام 1991)، أمام البرلمان الروسي، حين امتطى دبابة تابعة لجنرالات الجيش الأحمر الذين أعلنوا الانقلاب على ميخائيل غورباتشيف، قبل أن يفشل انقلابهم على نحو تراجيكوميدي. وليس، غالباً أيضاً، تلك الصورة الأيقونية الأخرى (في تشرين الأوّل/ أكتوبر 1993) حين أمر – باعتباره الرئيس، هذه المرّة، وبعد استدراج ولاء وزارة الداخلية والجيش الروسي – بقصف مبنى البرلمان الروسي ذاته لفضّ نزاع دستوري مع النوّاب المعارضين، على نحو غير بعيد عن الروحية ذاتها: المأساة/ المهزلة.
ما حفظه التاريخ أكثر، بدليل ملفات غوغل وغالبية محركات البحث، هو شريط الفيديو القصير الذي يلتقط الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون عاجزاً عن كتم موجة من الضحك الهستيري انتابته بعد سماع تعليق من يلتسين الواقف إلى جانبه، في نيويورك، خريف 1995. لم يكن المشهد مهيناً ومذلاً وهابطاً، بالنسبة إلى رئيس يتوجب أنه يمثّل القوة الكونية الأعظم الثانية، فحسب؛ بل كان نمط تفضيح أقصى لطبيعة بذور التحريض الشعبوي التي سوف يعتمدها بوتين، ربيبه وخليفته لاحقاً، بصدد إحياء نوستالجيا الإمبراطورية. وقبل بوتين كان هذا المخمور المتهتك، يلتسين، هو الآمر بغزو بلاد الشيشان عسكرياً، وإخضاعها، و”ضرورة قتل الكلاب المسعورة” هناك.
وهذه السطور ليست البتة صيغة مواربة من الحنين إلى النظام السوفييتي؛ بل قد يكون مشروعاً التذكير بأنّ صاحبها ينتمي إلى تيار النقد العميق لماركسية سوفييتية قاصرة وشائهة وستالينية، ولطراز من الاشتراكية استولد موضوعياً سلسلة العناصر التي حتّمت اندثاره. غير أنّ الليبرالية الروسية، الحولاء بدورها والأسوأ تشوّهاً وتسطحاً، كانت ولاّدة صعود حكم الأفراد القلائل المقرّبين من يلتسين، القابضين على زمام الأمور في السياسة الداخلية والأمن والاقتصاد، وأصحاب المصلحة الكبرى في هندسة مستقبل روسيا على نحو آمن خالٍ من العواصف “الديمقراطية”.
وقبل الحلقة الضيّقة التي يحيط بوتين نفسه بها، كان يكفي المرء أن يستعرض لائحة أفراد “العائلة” هذه كي يدرك حجم تأثيرها في عقل سيّد الكرملين، الذاهل الذاهب أبعد فأبعد نحو خريف البطريرك: تاتيانا داشنكو (ابنة يلتسين)، ألكسندر فولوشين (رئيس أركان الكرملين)، بوريس بريزوفسكي ورومان أبراموفيتش (أبرز شيوخ المال والأعمال والمصارف). هؤلاء كانوا “القطط السمان” في التعبير الشائع، أو “الأوليغارشية الجديدة” في التعبير الروسي الخاصّ، وكانوا يملكون مفاتيح الجبروت الكبرى: من شركات النفط والصحف اليومية وأقنية التلفزة، إلى مصانع التعدين والأغذية ومؤسسات الاستيراد والتصدير، وصولاً إلى الأهمّ والأخطر: المصارف الخاصّة.
وإذا صحّ أنّ شخصية بوتين حمّالة تعقيدات وعُقُد وعقائد أبعد، بكثير ربما، مما يصحّ أن يُحمّل على شخص يلتسين؛ إلا أنّ علوم الجدل، في حدودها الدنيا، لا تسمح بإغفال تلك الحقيقة البيّنة: سُحُب الأخير هي بعض، غير قليل، من هذه التي تمطر اليوم في أوكرانيا.