الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فشل جنيف.. فتش عن الولايات المتحدة

فشل جنيف.. فتش عن الولايات المتحدة

19.02.2014
عيسى الشعيبي


الغد الاردنية
الثلاثاء 18/2/2014
كان من عجب العجاب، مثلاً، لو أن اجتماعات جنيف الأخيرة انتهت إلى تحقيق أدنى درجة نجاح يتطلع إليها الشعب النازف في الديار الشامية. وكان من مفاجآت الصدف أيضاً، أن يتوصل طرفان متحاربان بكل هذه القسوة، ولم يفقد أي منهما بعد رهانه على كسب المعركة، إلى التوافق حول أي مسألة خلافية من وزن وقف العنف، وتشكيل هيئة حكم انتقالية، لاسيما وأنهما يخوضان منذ نحو ثلاث سنوات لعبة صفرية، لا تتسع منصة التتويج فيها بالفوز سوى للاعب واحد فقط.
لم تكن مثل هذه القراءة المتشائمة لمآلات عملية جنيف، أو قل مهزلة المفاوضات السورية-السورية، بنت لحظتها الفورية. كما لم يكن هذا التوقع الراجح منذ البداية، مقتصراً على المتفاوضين والرعاة والمراقبين والنافخين في الكير فحسب؛ وإنما كان يملأ أعمدة الصحف وشاشات التلفزيون، وكل من لديه بصر وعنده بصيرة ومتسع من الوقت لمتابعة المشهد المتفاقم حدة ودماً ودماراً، فور أن تم الاحتكام إلى قانون القوة، خصوصاً لدى النظام الذي ليس لديه خيار غير القوة.
كانت وثيقة جنيف التي تم التوصل إليها قبل نحو عشرين شهراً، تعبيراً ملموساً عن لعبة علاقات عامة، مفعمة بروح المساومات والمراوغات والتموضعات، لصف طويل من القوى الإقليمية والدولية، التي راحت تستثمر في هذه المسألة المروعة، وتوظف تداعياتها من أجل تحقيق مصالح جزئية، ومراكمة مكاسب خاصة بكل منها، من دون الالتفات إلى شلال الدم السوري المتدفق بغزارة لا مثيل لها في الذاكرة الإنسانية منذ مطلع الألفية الجديدة.
هكذا تحولت الجغرافيا السورية إلى ملعب واسع ومفتوح، تبارت فيه القوى الخارجية، وتنافست بين بعضها بعضاً، لإملاء موقف هنا، أو توسيع دائرة نفوذ هناك، أو انتزاع مكسب هنالك. الأمر الذي أخرج أقدار سورية من بين أيدي أصحابها، وجعلها ساحة مثالية لممارسة سياسة الاستقواء، ومراكمة النقاط والأوراق والوقائع، واختبار مناطق الضعف والقوة ونجاعة التكتيكات، بين أطراف ذات حسابات أبعد من حدود رقعة جغرافية مفتوحة أمام الذئاب والضباع والثعالب المتنمرة.
وقد لا يختلف اثنان على أن سبب تفاقم هذه الأزمة، وعلّة استمرارها كل هذا الوقت، ماثل في حقيقة أنه كلما كان الحريق السوري يشتد، حصدت إيران أولاً، وروسيا ثانياً، نقاطا ثمينة؛ مكاسب سياسية تلائم سعي الدولة الإقليمية الصاعدة إلى فرض نفسها كلاعب رئيس في المنطقة، وتوائم من جهة مقابلة رغبة الدولة الكبرى العائدة من بياتها الشتوي الطويل لاسترداد مكانتها السابقة، والارتقاء درجة فوق درجة، على سلّم العظمة المشتهاة، كقطب دولي ذي كلمة نافذة، تنادد كلمة الدولة العظمى الوحيدة المتربعة على عرش الفرادة المطلقة منذ نحو ربع قرن مضى.
وعليه، فإنه يمكن الاستنتاج مباشرة، من دون الغوص بحثاً عن الذرائع المتهافتة، أن الولايات المتحدة، بتخاذلها المديد، وإخلائها التدريجي البطيء لخشبة مسرح الأزمة السورية لصالح الدب الجائع، ناهيك عن افتقارها للزعامة، وربما للقيادة، هي التي أمدت في عمر هذه الأزمة، وفاقمتها على هذا النحو المروع، أكثر من سائر الأطراف الاخرى مجتمعة. الأمر الذي منح خصوم واشنطن وأعداءها كل ما كانوا يحتاجونه من وقت لتعطيل عقارب ساعة التحولات السورية، وجعل الدكتاتور القابع في دمشق الاستثناء الوحيد على قاعدة التطور والتغيير المعمول بها في زمن "الربيع العربي".
إزاء ذلك كله، فقد كان من المنطقي أن يفضي مؤتمر "جنيف2" إلى ما أفضى إليه من نتيجة متوقعة سلفا، وأن تتبدد سدى كل الجهود الدبلوماسية المبذولة والحيل السياسية البائسة، لعقد هذا المؤتمر الطافح بالمراوغات والمناورات والرهانات الساذجة، وذلك على النحو الذي تمخضت عنه دورة المفاوضات الأخيرة من انسدادات جديدة؛ وأن تظل الأزمة، فوق ذلك، تراوح في مكانها، والشعب السوري ينزف دماً بغزارة شديدة، إلى أن تراجع الولايات المتحدة سياسة اللاسياسة هذه، وتكف عن هذه الرخاوة المميتة، وتتحمل في يوم ما مسؤوليتها الأخلاقية، وتنهض بواجباتها القيادية. إذ يمكن لنا آنذاك أن نصدق ما ترفعه من قيم ومبادئ ومثل إنسانية رفيعة.