الرئيسة \  تقارير  \  صراع حضارات على طريقة فلاديمير بوتين

صراع حضارات على طريقة فلاديمير بوتين

03.03.2022
روس دوثات


روس دوثات* – (نيويورك تايمز) 26/2/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الاربعاء 2/3/2022
عندما ذهبت الولايات المتحدة، في ساعة غطرستها، إلى الحرب لإعادة تشكيل الشرق الأوسط في العام 2003، كان فلاديمير بوتين ناقدًا للطموح الأميركي ومدافعًا عن المؤسسات الدولية والتعددية والسيادة الوطنية.
كان ذلك الموقف قائماً على العناية بالمصلحة الذاتية إلى أقصى الحدود. لكن الأحداث أثبتت صحته أيضًا، حيث أظهر فشلنا في العراق ثم أفغانستان تحديات الغزو، ومخاطر الاحتلال، والقوانين والتداعيات غير المقصودة للحرب. وواصلت روسيا بوتين، التي استفادت بشكل كبير من حماقاتنا، عودة ظهورها على طريق التدرج الماكر، والاستيلاء على الأراضي على نطاق صغير وسط “صراعات مجمدة”، وتوسيع نفوذها في قضمات حذرة قابلة للإدارة.
لكنّ بوتين يقوم الآن بمجازفة تاريخية عالمية، ويتبنى نسخة أكثر شراً من الرؤية غير المقيدة التي قادت جورج دبليو بوش في السابق إلى الضلال. ومن الجدير التساؤل عن السبب الذي يدفع زعيماً كان يبدو في يوم من الأيام عارفاً بمخاطر الغطرسة إلى الخوض في هذه المقامرة الآن.
أفترض أن بوتين صادق عندما ينتقد محاصرة الناتو لروسيا ويصر على أن النفوذ الغربي يهدد الصلة التاريخية القائمة بين أوكرانيا وروسيا. ومن الواضح أنه يرى فرصة سانحة في فوضى الوباء والتوسع الإمبريالي المفرط لأميركا والغرب المنقسم داخليًا.
ومع ذلك، حتى السيناريو الأكثر نجاحًا لغزو أوكرانيا -تحقيق انتصار سهل، وعدم ظهور تمرد حقيقي، وتنصيب حكومة مطواعة- يبدو من المرجح أن يقوض بعض المصالح التي يُفترض أن بوتين يقاتل من أجل الدفاع عنها. سوف يظل الناتو يحاصر غرب روسيا تقريبًا، وقد تنضم المزيد من الدول إلى الحلف، وسوف يزداد الإنفاق العسكري الأوروبي، وسوف ينتهي الأمر بنشر مزيد من القوات والمواد في أوروبا الشرقية. وسيكون هناك ضغط من أجل تحقيق استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وبعض المحاولات لفك الارتباط على المدى الطويل عن خطوط الأنابيب والإنتاج الروسي. وستكون الإمبراطورية الروسية المعاد تشكيلها أكثر فقراً مما قد تكون عليه في أي حالة أخرى، وستكون أكثر عزلة عن الاقتصاد العالمي في مواجهة غرب أكثر اتحاداً. ومرة أخرى، كل هذا يفترض عدم وجود احتلال مطول طاحن، ولا مشاعر مناهضة للحرب في الوطن.
من الممكن أن بوتين يفترض فقط أن الغرب منحط للغاية، ومن السهل شراؤه بحيث أن نوبات الغضب سوف تمر، وأن بالوسع استئناف العمل كالمعتاد من دون أي عواقب دائمة. ولكن، لنفترض أنه يتوقع بعض هذه العواقب ويتوقع مستقبلاً أكثر عزلة. ما الذي قد يكونه تبريره المنطقي لاختيار هذا المستقبل؟
إليكم أحد التكهنات: ربما يعتقد أن عصر العولمة الذي تقوده أميركا يصل الآن إلى نهاية بغض النظر عن أي شيء، وأن جدراناً معينة ستبقى بعد الوباء قائمة في كل مكان، وأن الهدف خلال الأعوام الخمسين المقبلة هو قيامك بتعزيز ما تستطيع تعزيزه -الموارد، والمواهب، والناس، الأرض- “داخل” جدرانك الحضارية الخاصة.
في هذه الرؤية، لن يكون المستقبل إمبراطورية عالمية ليبرالية ولا حربًا باردة متجددة بين كونيات متنافسة. بل سوف يكون بالأحرى عالماً مقسماً إلى نسخة مما أسماه برونو ماسايس “دول الحضارة” -قوى عظمى متماسكة ثقافيًا تطمح -ليس إلى الهيمنة على العالم، وإنما إلى أن تكون أكوانًا في ذاتها- تعيش كل منها، ربما، تحت مظلتها النووية الخاصة.
هذه الفكرة، التي تعبق برائحة أطروحات صامويل هنتنغتون عن “صراع الحضارات” منذ جيل مضى، تؤثر بوضوح في العديد من القوى الصاعدة في العالم -من أيديولوجية “هندوتفا” لناريندرا مودي في الهند إلى التحول ضد التبادل الثقافي والتأثير الغربي في صين شي جين بينغ. ويأمل ماسايس نفسه في أن تؤدي نسخة من هذه النزعات الحضاراتية إلى إعادة إحياء أوروبا، حيث قد تكون مغامراتية بوتين محفزاً لتكوين تماسك قاري أقوى. وحتى داخل الولايات المتحدة، يمكنك أن ترى عودة ظهور القومية الاقتصادية والحروب على الهوية الوطنية باعتبارها تحولاً نحو هذا النوع من المشاغل الحضاراتية.
في ضوء ذلك، يبدو غزو أوكرانيا وكأنه حضاراتية فالتة من عقالها؛ محاولة لتشكيل ما يطلق عليه الكاتب القومي الروسي أناتولي كارلين “العالم الروسي” -بمعنى وجود “حضارة تكنولوجية قائمة بذاتها إلى حد كبير، مكتملة بنظامها البيئي الخاص لتكنولوجيا المعلومات… وبرنامجها الفضائي، ورؤاها التكنولوجية… والتي تمتد من بريست إلى فلاديفوستوك”، بالقوة. والهدف، بعبارات أخرى، ليس الثورة العالمية أو غزو العالم، وإنما الاحتواء الذاتي الحضاري -توحيد “تاريخنا وثقافتنا وحيزنا الروحي”، كما قال بوتين في خطابه عن الحرب -بينما يتم جر بعض الأولاد الضالين وإعادتهم كرهاً إلى الوطن.
ولكن إذا لم تستطع دولتك-حضارتك اجتذاب أولادها المنفصلين بالإقناع، فهل يمكن حقًا إبقاؤهم في الداخل بالقوة؟ وحتى لو نجح الغزو، ألن يجد الكثيرون من رأس المال البشري في أوكرانيا -الشباب والموهوبون والطموحون- طرقًا للفرار أو الهجرة، تاركين بوتين ليرث بلدًا فقيرًا محطمًا ومليئًا بالمتقاعدين؟ وبالقدر الذي تكون فيه الرؤية القومية للاكتفاء الذاتي الروسي خيالية في الأساس، ألا يمكن أن ينتهي المطاف بروسيا بوتين، التي يُفترض أنها “روسيا الكبرى”، إلى أن تصبح بدلاً من ذلك عميلاً أو تابعاً صينياً، تشدها جاذبية بكين الأقوى في علاقة أكثر تبعية كلما ازداد انفصام علاقاتها مع أوروبا؟
هذه هي التحديات طويلة الأمد، حتى بالنسبة لبوتينية تقبل بالاكتفاء الذاتي والعزلة كثمن لتوحيد روسيا. ولكن في الوقت الحالي، وبطول الأيام التي يكون الأوكرانيون قادرين على مواصلة القتال فيها، يجب أن يكون الأمل هو أن لا يحصل بوتين أبدًا على الفرصة للتعامل مع المشاكل طويلة الأجل -وأن يقوم التاريخ الذي يتخيل أنه يصنعه بصناعة هزيمته.
                                         
عندما ذهبت الولايات المتحدة، في ساعة غطرستها، إلى الحرب لإعادة تشكيل الشرق الأوسط في العام 2003، كان فلاديمير بوتين ناقدًا للطموح الأميركي ومدافعًا عن المؤسسات الدولية والتعددية والسيادة الوطنية.
كان ذلك الموقف قائماً على العناية بالمصلحة الذاتية إلى أقصى الحدود. لكن الأحداث أثبتت صحته أيضًا، حيث أظهر فشلنا في العراق ثم أفغانستان تحديات الغزو، ومخاطر الاحتلال، والقوانين والتداعيات غير المقصودة للحرب. وواصلت روسيا بوتين، التي استفادت بشكل كبير من حماقاتنا، عودة ظهورها على طريق التدرج الماكر، والاستيلاء على الأراضي على نطاق صغير وسط “صراعات مجمدة”، وتوسيع نفوذها في قضمات حذرة قابلة للإدارة.
لكنّ بوتين يقوم الآن بمجازفة تاريخية عالمية، ويتبنى نسخة أكثر شراً من الرؤية غير المقيدة التي قادت جورج دبليو بوش في السابق إلى الضلال. ومن الجدير التساؤل عن السبب الذي يدفع زعيماً كان يبدو في يوم من الأيام عارفاً بمخاطر الغطرسة إلى الخوض في هذه المقامرة الآن.
أفترض أن بوتين صادق عندما ينتقد محاصرة الناتو لروسيا ويصر على أن النفوذ الغربي يهدد الصلة التاريخية القائمة بين أوكرانيا وروسيا. ومن الواضح أنه يرى فرصة سانحة في فوضى الوباء والتوسع الإمبريالي المفرط لأميركا والغرب المنقسم داخليًا.
ومع ذلك، حتى السيناريو الأكثر نجاحًا لغزو أوكرانيا -تحقيق انتصار سهل، وعدم ظهور تمرد حقيقي، وتنصيب حكومة مطواعة- يبدو من المرجح أن يقوض بعض المصالح التي يُفترض أن بوتين يقاتل من أجل الدفاع عنها. سوف يظل الناتو يحاصر غرب روسيا تقريبًا، وقد تنضم المزيد من الدول إلى الحلف، وسوف يزداد الإنفاق العسكري الأوروبي، وسوف ينتهي الأمر بنشر مزيد من القوات والمواد في أوروبا الشرقية. وسيكون هناك ضغط من أجل تحقيق استقلال أوروبا في مجال الطاقة، وبعض المحاولات لفك الارتباط على المدى الطويل عن خطوط الأنابيب والإنتاج الروسي. وستكون الإمبراطورية الروسية المعاد تشكيلها أكثر فقراً مما قد تكون عليه في أي حالة أخرى، وستكون أكثر عزلة عن الاقتصاد العالمي في مواجهة غرب أكثر اتحاداً. ومرة أخرى، كل هذا يفترض عدم وجود احتلال مطول طاحن، ولا مشاعر مناهضة للحرب في الوطن.
من الممكن أن بوتين يفترض فقط أن الغرب منحط للغاية، ومن السهل شراؤه بحيث أن نوبات الغضب سوف تمر، وأن بالوسع استئناف العمل كالمعتاد من دون أي عواقب دائمة. ولكن، لنفترض أنه يتوقع بعض هذه العواقب ويتوقع مستقبلاً أكثر عزلة. ما الذي قد يكونه تبريره المنطقي لاختيار هذا المستقبل؟
إليكم أحد التكهنات: ربما يعتقد أن عصر العولمة الذي تقوده أميركا يصل الآن إلى نهاية بغض النظر عن أي شيء، وأن جدراناً معينة ستبقى بعد الوباء قائمة في كل مكان، وأن الهدف خلال الأعوام الخمسين المقبلة هو قيامك بتعزيز ما تستطيع تعزيزه -الموارد، والمواهب، والناس، الأرض- “داخل” جدرانك الحضارية الخاصة.
في هذه الرؤية، لن يكون المستقبل إمبراطورية عالمية ليبرالية ولا حربًا باردة متجددة بين كونيات متنافسة. بل سوف يكون بالأحرى عالماً مقسماً إلى نسخة مما أسماه برونو ماسايس “دول الحضارة” -قوى عظمى متماسكة ثقافيًا تطمح -ليس إلى الهيمنة على العالم، وإنما إلى أن تكون أكوانًا في ذاتها- تعيش كل منها، ربما، تحت مظلتها النووية الخاصة.
هذه الفكرة، التي تعبق برائحة أطروحات صامويل هنتنغتون عن “صراع الحضارات” منذ جيل مضى، تؤثر بوضوح في العديد من القوى الصاعدة في العالم -من أيديولوجية “هندوتفا” لناريندرا مودي في الهند إلى التحول ضد التبادل الثقافي والتأثير الغربي في صين شي جين بينغ. ويأمل ماسايس نفسه في أن تؤدي نسخة من هذه النزعات الحضاراتية إلى إعادة إحياء أوروبا، حيث قد تكون مغامراتية بوتين محفزاً لتكوين تماسك قاري أقوى. وحتى داخل الولايات المتحدة، يمكنك أن ترى عودة ظهور القومية الاقتصادية والحروب على الهوية الوطنية باعتبارها تحولاً نحو هذا النوع من المشاغل الحضاراتية.
في ضوء ذلك، يبدو غزو أوكرانيا وكأنه حضاراتية فالتة من عقالها؛ محاولة لتشكيل ما يطلق عليه الكاتب القومي الروسي أناتولي كارلين “العالم الروسي” -بمعنى وجود “حضارة تكنولوجية قائمة بذاتها إلى حد كبير، مكتملة بنظامها البيئي الخاص لتكنولوجيا المعلومات… وبرنامجها الفضائي، ورؤاها التكنولوجية… والتي تمتد من بريست إلى فلاديفوستوك”، بالقوة. والهدف، بعبارات أخرى، ليس الثورة العالمية أو غزو العالم، وإنما الاحتواء الذاتي الحضاري -توحيد “تاريخنا وثقافتنا وحيزنا الروحي”، كما قال بوتين في خطابه عن الحرب -بينما يتم جر بعض الأولاد الضالين وإعادتهم كرهاً إلى الوطن.
ولكن إذا لم تستطع دولتك-حضارتك اجتذاب أولادها المنفصلين بالإقناع، فهل يمكن حقًا إبقاؤهم في الداخل بالقوة؟ وحتى لو نجح الغزو، ألن يجد الكثيرون من رأس المال البشري في أوكرانيا -الشباب والموهوبون والطموحون- طرقًا للفرار أو الهجرة، تاركين بوتين ليرث بلدًا فقيرًا محطمًا ومليئًا بالمتقاعدين؟ وبالقدر الذي تكون فيه الرؤية القومية للاكتفاء الذاتي الروسي خيالية في الأساس، ألا يمكن أن ينتهي المطاف بروسيا بوتين، التي يُفترض أنها “روسيا الكبرى”، إلى أن تصبح بدلاً من ذلك عميلاً أو تابعاً صينياً، تشدها جاذبية بكين الأقوى في علاقة أكثر تبعية كلما ازداد انفصام علاقاتها مع أوروبا؟
هذه هي التحديات طويلة الأمد، حتى بالنسبة لبوتينية تقبل بالاكتفاء الذاتي والعزلة كثمن لتوحيد روسيا. ولكن في الوقت الحالي، وبطول الأيام التي يكون الأوكرانيون قادرين على مواصلة القتال فيها، يجب أن يكون الأمل هو أن لا يحصل بوتين أبدًا على الفرصة للتعامل مع المشاكل طويلة الأجل -وأن يقوم التاريخ الذي يتخيل أنه يصنعه بصناعة هزيمته.
 
*روس غريغوري دوثات Ross Douthat: محلل سياسي أميركي، ومدون، ومؤلف وكاتب عمود في صحيفة “نيويورك تايمز”. كان كبير المحررين في مجلة “الأتلانتيك”. كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع بما في ذلك حالة المسيحية في أميركا والانحطاط المستدام” في المجتمع المعاصر.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Vladimir Putin’s Clash of Civilizations