الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صفقة العصر بين عملاقيْ العالم ضد سورية الوطن وثورتها المغدورة!

صفقة العصر بين عملاقيْ العالم ضد سورية الوطن وثورتها المغدورة!

17.09.2013
مطاع صفدي


القدس العربي
الاثنين 16/9/2013
الضربة الصاروخية ضد مواقع النظام في سورية، لو تحققت لكانت قربت الديكتاتورية من نهاية عصرها. هذه حقيقة ظاهرة أدركها الحليف الأكبر، الدب الروسي، ولذلك سارع إلى استرضاء أمريكا باختراع تسوية لن تكون سوى مناورة في السياق الأساسي للأزمة المستفحلة نفسها، وليست حلاً لها أبداً. والمدهش في الموقف الأمريكي إزاء العرض الروسي هو السرعة في الإعلان عن قبوله لها؛ كأنما كان الرئيس أوباما في انتظاره.
فالرجل لم يكن جاداً طيلة تطورات هذا الحدث الدولي. كان في واقع الأمر ساعياً وراء الانتصار، ولكن في حرب لن تقع. فلم يصنع لنفسه مأزقاً عندما رفع سقف الرد على الوحشية الكيماوية إلى مستوى صيغة الحرب المحدودة. لم يصعد إلى أعلى الشجرة لكي يهوي منها إلى أسفل السافلين، بكلمة واحدة لم يكن رئيس البيت الأبيض أسيراً لمأزق سياسي أو تاريخي، كما اعتقدت بعض صحافة الغرب والعرب معاً، كان ذلك الخطيب المفوه يمارس أحدث إبداعات العصر في المجال المعلوماتي، كان يؤلف ظاهرة افتراضية كاملة الشروط والمواصفات، وها هي هذه الظاهرة تقدم كل ما كان يؤمل منها، فقد استسلم ‘العدو’ قبل أن ينطلق أول صاروخ من بارجة أمريكية راسية قبالة الساحل السوري.
لقد تنازل الرئيس الكيماوي عن ترسانة الجيش السوري من أسلحة الدمار الشامل، قابلاً بوضع هذه الترسانة، التي كان من المفترض أنها تمثل الدفاع الاحتياطي الأخير عن الأمن القومي السوري والعربي معاً في وجه العدو التاريخي المزمن إسرائيل، ضداً على ما تمتلكه هذه الدولة المصطنعة من القنابل النووية الفتاكة؛ وضعها الأسد في عهدة ما يسمّى بالمجتمع الدولي، مفتدياً بذلك قراراً دولياً آخر لم يصدر بعد، وإن راحت تتوفّر كلّ حيثياته الواقعية والقانونية، ينصّ على تفويض امبراطوريته العائلية والزبونية والمذهبية.
كل ذلك يكاد يجري تحت طائلة تسوية دولية خارقة، لم تبرح بعد مرحلة العرض والطلب، وتحفّ بها كل طوائف الشكوك والمضاربات السياسوية، فهي مهددة كذلك بفائض من الظنون المرافقة للظاهرة الافتراضية الأولى التي سبقتها ولا تزال تحتل دورها المركزي، وهي الحاملة لمشروع الضربة الصاروخية العتيدة، تلك التي لن يتبقى لها أي تأثير سياسي بعد أن سحبها أوباما من التداول العملي، حتى وإن ظلّ يلوّح بها كشرط معلق فوق مصداقية الأسد في تنفيذه لعملية التسليم الكلي لمخزونه الكيميائي، غير أن هذا التهديد سيكون خطاً أحمر آخر ينضاف إلى سوابقه من خطوط أوباما العنكبوتية، ذلك أن هذا الرئيس كان متواضعاً منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم يتم انتخابه كي يكون إمبراطوراً جديداً، مضيفاً أمجاداً أخرى إلى تراث إمبراطورية أمريكية باتت عجوزاً متهالكة، كانت مهمته الضمنية تصفية الإمبراطورية، إعادة هذا البلد المتضخم، بعد لم يعد العالم كله متسعاً لاستيعاب مطامعه، إلى حجم أمريكا الولايات المتحدة الأصلية، كأية دولة عادية بين دول المعمورة، وإن احتفظت بصفتها كإحدى أمم العالم العظمى، بغير (مزايا) الطغيان والشرور الكبرى المعروفة عنها سابقاً، بل بفضائل المعرفة والإبداع والمدنية العادلة.
كان من المدهش حقاً أن تجمع التعليقات في عواصم الغرب قبل الشرق على اعتبار التسوية الروسية أنها جاءت بمثابة إنقاذ من ورطة حرب مكروهة أفادت أطرافاً كثيرين وأولهم أمريكا، وشخص رئيسها بالذات خصوصاً، في مقدمة الجميع، لكن هذه التسوية ليست روسية الا باسمها، بل تكاد تكون من طبيعة المذهب الأوبامي عينه، ومن صلب منطوقه الفلسفي، لا يريد أن يفجر بيده الصاعق البركاني لعصر من الحروب الجديدة، ساحاتها الأولى شرق أوسطية، وآفاقها عالمية كونية، لن تدخل هذه المهمة مطلقاً في أجندة التصفية لأعطال إمبراطورية، بدءاً من تحريرها من تراث حروبها الاستعمارية الظالمة أولاً.
كل هذا التسويغ لحالة منع الفعل التي شلّت فجأة الرئاسة الأمريكية ورَهْطَها القيادي والإعلامي من حولها، قد يفيد في مفهمة الحدث المداهم من وجهة التأويل الاستراتيجي فحسب، لكنه لن يحيط مادياً بعوامله الموضوعية، ذلك أن إلغاء التهديد العسكري لا يعني أن اليد الأمريكية قد سُحبت جزئياً أو كلياً من صميم حمأة الأزمة الراهنة، كما لا يعني أبداً أن الأزمة شارفت نهايتها، كل ما تمخضت عنه تقلبات أحوال السياسة الدولية خلال الأسبوع الفائت يمكن تلخيصه في بضع نقاط: أولها هي أن أمريكا عازمة على الوصول إلى هدفها بوسيلة الحرب الدبلوماسية؛ الذي لم تحصل عليه حتى الآن بوسيلة الحرب الصاروخية، أما النقطة الثانية فهي أن الديكتاتورية المتسلطة على دمشق أصيبت بطعنتين معاً في صميم عنفوانها السياسي ـ هذا إن تبقى لها شيء منه بَعْدُ ـ فمن ناحية اضطر الأسد إلى الاعتراف بمخزون سورية الكيميائي علناً، وضمناً إلى الاقرار باستخدامه ضد شعبه، ومن ناحية ثانية فإنه جرّد سورية الدولة من خط دفاعها الأمني والعسكري الأخير، أسقط معادلة توازن الرعب ضد التفوق الإسرائيلي بالأسلحة الذرية. لكن الأخطر من كل ذلك هو أن (رئيس) الجمهورية العربية السورية مارس عملياً اعتبار دولة هذه الجمهورية أشبه بملكية شخصية، يمكنه أن يتصرف بها كما يشاء، حتى يتجرأ على بيع سيادتها لأعدائها لقاء احتفاظه بمنصبه؛ حالما يشرع المفتشون الدوليون بتكرار مسلسلهم العراقي المعهود المشؤوم، يستبيحون في البلد المفتوح كلَّ حرمة، كل مؤسسة، كل قصر. حتى قصور / قلاع الطواغيت الحاكمين، بحثاً عن الكيماوي المهرب، عن آثاره، ووثائقه. كل شيء في الوطن السوري سوف يكون موضوعاً قابلاً للشك المسبق، ومن ثم يمكن انتهاك.. أسراره!
أما الغائب الوحيد في هذه الكوكبة الكبيرة من صراع المصالح الدولية المتضاربة، فهي سورية الشعب وثورتها المضطربة تحديداً، لا يمكن العثور على من يمكنه الادعاء بأنه يمثل هذا الفريق الغائب بين أبطال هذه التراجيديا الكونية الراهنة. حتى (الثورة) لا يمكنها ذلك، لقد عجزت عن تحقيق تمثيلها الواحد لمكونات ذاتيتها، فكيف لها أن تكون الوكيلة الحصرية عن مجتمع الخمسة والعشرين مليوناً الذي بات أكثر من نصفه موزعاً بين قتيل وجريح ومهجّر أو جائع أو مشرد، ومع ذلك فلا يزال لهذه الثورة دورها الفعال في طبيعة الخاتمة النهائية لهذه الصفقة المريبة التي يعقدها عملاقا السياسة الدولية، الأولى من نوعها في القرن الواحد والعشرين. فالثورة السورية مستمرة في الإمساك على الأقل بإمكانيات التعطيل لأية تفاهمات أجنبية مشبوهة تُعقد ما فوق رأسها، وتتعارض جذرياً مع صميم استراتيجيتها في مشروع التغيير لبنية السلطة ومنهاجها، والإطاحة برموزها بدءاً من طاغوتها الأكبر.
بوتين يستغل تراجع أوباما عن حله العسكري إلى أقصى الحدود، يريد أن يبدو أنه هو السيد الأول في هذه الصفقة، هو مؤلفها ومخرجها، وما على الرئيس الأمريكي إلا القبول بالأدوار التي يمنحه إياها صاحبُها الرئيسي، ما يفعل وزير خارجيته البارع جون كيري، هو إدخال بعض التعديلات الثانوية على البنود المرسومة مسبقاً، لذلك يمكن لـ بوتين أن يسعى إلى إلغاء الثورة السورية، بحرمانها من مواردها كلياً، وذلك بموافقة أمريكا هذه المرة، هذا هو جوهر الصفقة، كل ما عدا ذلك مشاهد افتراضية من جنس الضربة الملغاة.
خاتمة الصفقة ستأتي عجباً عُجاباً، فلا السلاح الكيميائي سوف يدمر، لأن معظمه يتم تهريبه إلى مغاور سورية، وإلى ماوراء حدودها، ولن يكف النظام عن متابعة مجازره المعتادة، ولا المسلحون سوف يلقون بأعتدتهم على قارعة الطرقات، ولن تبادر مؤسسات الأمم المتحدة، من مجلس الأمن إلى هيئات حقوق الإنسان ولجان تحقيقاتها، ومحاكمها المخصصة بالجرائم ضد الإنسانية.. لن تقدم على أية إجراءات حقيقية لكبح أية أزمة قائمة في هذا الشرق الأوسط المنكوب. فالحلول المنتظرة من صفقات الكبار تسير على مبدأ أن نهاية كل أزمة هي بداية للأزمة التالية، فليس ثمة خلاص للشعوب المعذبة يهبط عليها من فوق سطوح بلادها، وما على الثوار الحقيقيين إلا أن يجددوا الثقة بمشروعهم الأصلي، حتى بعد كل مأزق، شرط أن يفيدوا من دروسه. فالمهمات الأكبر وربما الأخطر لازالت بانتظارهم في أقرب المنعطفات أمامهم.