الرئيسة \  تقارير  \  صناعة الأرقام.. لماذا يجب ألا تثق بإحصائيات البطالة الرسمية؟

صناعة الأرقام.. لماذا يجب ألا تثق بإحصائيات البطالة الرسمية؟

16.10.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
السبت 15/10/2022
نتساءل أحيانًا لماذا لا نسمع عن دولة بمعدل صفر بطالة؟  أو ما الذي يعكسه معدل البطالة تحديدًا؟ ففي دولنا العربية نشعر بوجود نسبة كبيرة ممن حولنا عاطلين عن العمل. ورغم ذلك تتحدث السلطات الرسمية عن معدلات بطالة لا تتجاوز 10%، فهل هي معدلات مُضللة؟
يُساء فهم البطالة أحيانًا، وتكثر التصورات العامة عنه بما يخالف علم الاقتصاد، ويحاول هذا التقرير استعراض مفهوم البطالة، والإجابة عن بعض الأسئلة مثل: كيف تخدعنا أرقام البطالة؟ وكيف يشكل الواقع الاقتصادي ثقافة العمل؟
ما البطالة؟
العاطلون هم الذين لا يعملون رغم إتاحتهم، ومن هم أيضًا في سن العمل، ويستثنى من ذلك الطلاب. ويضُاف إليهم الأشخاص الذين يتخذون خطوات عملية للحصول على عمل، ضمن فترة محددة تقدر بشهر.
ففي علم الاقتصاد لا تعني البطالة من لا يعملون رغم قدرتهم، بل هناك محددات أكثر لتحديد العاطلين عن العمل. وتضع كل دولة معاييرها الخاصة، ولكن هناك معايير عالمية عادة ما تُتَّبع في احتساب معدل البطالة في العالم.
من هذا التعريف فإن البطالة ليست نسبة من لا يعملون على نسبة السكان، ولكنها نسبة من لا يعملون إلى نسبة ما يتعارف عليه في علم الاقتصاد باسم “قوة العمل”؛ وهو مصطلح ينطبق على جميع السكان المتاحين ضمن سن العمل ويعملون، أو لا يعملون بشرط بحثهم المستمر عن العمل، ويستثني التعريف كل من هو غير فاعل في البحث عن العمل لأي سبب كان.
وعادةً ما يترافق ارتفاع معدل البطالة مع سوء حال الاقتصاد والركود، ويقسم الاقتصاديون البطالة إلى أربعة أنواع:
نوعان تحت تصنيف البطالة الطبيعية؛ الأول “البطالة الاحتكاكية – Frictional Unemployment” الناتجة من خيار طبيعي بترك وظيفة والبحث عن غيرها، أو خريجي الجامعات الذين يحتاجون وقتًا لإيجاد وظائفهم، والثاني “البطالة البنيوية – Structural Unemployment”؛ وناتج مثلًا عن قفزات تكنولوجية تجعل فئات من العمال غير صالحين للسوق، أو بسبب وجود عمال في أماكن بعيدة عن الوظائف المتاحة، مع عدم رغبتهم بالانتقال، وهذان النوعان هما ما يجعل من المستحيل تحقيق معدل بطالة 0%.
النوع الثالث “البطالة الدورية – Cyclical Unemployment” نسبة للدورة الاقتصادية، وهي البطالة الناتجة من سوء حالة الاقتصاد، والدخول في الركود، أو أثناء التعافي؛ ما يعني بالمجمل أن هذا النوع من البطالة هو النوع المتعلق بحالة الاقتصاد ودورته، وهو أول أنواع البطالة غير الطبيعية، لأن ارتفاعه مؤشر على وضع غير طبيعي في الاقتصاد مثل الركود.
والنوع الأخير “البطالة المؤسسية – Institutional Unemployment”، وهي البطالة الناتجة من أسباب مؤسسية عديدة؛ مثل وضع حد أدنى مرتفع للأجور بحيث لا يعكس الأجر المنطقي لبعض المهن، ما يدفع بعض الشركات إلى التخلي عن توظيف العمال رغم إمكانياتهم، أو بسبب قوة النقابات بشكل كبير، فبعض النقابات تطالب بمنع دخول عمال جدد لمجالات عملهم، لأن ذلك يضمن تخفيض التنافسية في قطاعاتهم.
وهناك أنواع أخرى أقل أهمية مثل البطالة الموسمية، وهي المتعلقة بمواسم عمل بعض القطاعات مثل السياحة، ولكن هذه البطالة ليست مشكلة طويلة الأمد، أو واسعة التأثير في اقتصاد صحي.
إحصائيات البطالة.. كيف تخدعنا؟
التعريف السابق للبطالة مهم جدًّا فيما يلي؛ فهذه المحددات التقنية تصنع فارقًا مهمًّا في فهمنا للبطالة، وفي معرفتنا لكيف يمكن أن تخدعنا إحصائيات البطالة، إذا لم نفهم الإحصائيات بشكل كامل.
ذكرنا سابقًا أن معدل البطالة يحتسب بقسمة عدد العاطلين على قوة العمل، ولذلك فمن المهم معرفة نسبة قوة العمل هذه إلى إجمالي السكان ضمن السن القانونية للعمل، وتزودنا قاعدة بيانات البنك الدولي بمثل هذه المعلومة لكل من الولايات المتحدة، وألمانيا، واليابان، والصين، وتونس، ومصر، والأردن، والسعودية، وقطر.
يمكن تقسيم هذه الدول لأربع مجموعات؛ الأولى تشمل الولايات المتحدة، وألمانيا، واليابان، والصين؛ فجميعها لديها بين 73-80% من سكانها في سوق العمل، وهي نسب متقاربة، وقد تعكس تقاربًا في ثقافة هذه المجتمعات تجاه العمل. المجموعة الثانية الأردن، ومصر، وتونس بنسبة قوة العملة بين 41-52% تقريبًا في هذه المجتمعات.
أما المجموعتان الثالثة والرابعة فيمثل كل قسمٍ منهما دولة واحدة فقط، وهما السعودية بنسبة 58%، وقطر بالنسبة الأعلى في هذه القائمة 87.7%، وهي أعلى نسبة في العالم. علمًا بأنَّ النسبة العالمية للبطالة تقدر بـ66.5%.
يمكن تفسير الانخفاض الكبير للمجموعة الثانية (مصر والأردن وتونس) وفقًا لطبيعة اقتصاداتها التي لا تحتمل توظيف الكثيرين. ما يدفع الكثيرين إلى ترك بحثهم عن الوظائف، وعوامل ثقافية متعلقة بعمل الإناث مثلًا، فنسبة عمل الإناث في هذه الاقتصادات منخفضة للغاية مقارنة بغيرها.
أما النسبة المرتفعة لدولة قطر فهي أمر طبيعي؛ فيعود ذلك لأنَّ قوة العمل غير مكونة من المواطنين وحسب، وإنما تعود لنسبة كبيرة للعمالة الأجنبية، في مقابل قلة عدد المواطنين. ورغم أن السعودية تشترك مع قطر بوجود نسبة عمالة أجنبية كبيرة؛ فإن عدد مواطنيها كبير.
نموذج أرقام البطالة لمصر
لنأخذ مصر مثالًا، ونفترض أن العوامل البنيوية في اقتصادها تغيرت جذريًّا لتصبح مشابهة للمجموعة الأولى، وأصبحت قوة العمل في مصر تمثل 73%، وليس 48% وفقًا لأحدث بيانات البنك الدولي، وذلك دون تغير الاقتصاد تغيرًا جذريًّا يسمح بامتصاص هذه الزيادة الكبيرة.
في الوضع الأول (قوة عمل 48% من السكان) كانت نسبة البطالة في مصر 7.8% فقط، وكانت النسبة نفسها في الصين 4.5%، وقد ننخدع ظانين أنَّ الحال في مصر ليس مختلفًا كثيرًا عن الصين، رغم كون الوضع في الصين أفضل بـ3.5% من حيث البطالة، ولكن فارق نسبة من هم في سوق العمل في الصين ومصر هائل جدًّا؛ بحيث أن نسبة البطالة في مصر سترتفع إلى 50% من إجمالي السكان إذا ما أصبحت نسبة قوة العمل فيها 73%.
من هذا الجانب نفهم عدم إمكانية مقارنة نسب البطالة بين الصين ومصر. ولكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، فهذا يعني أحيانًا عدم قدرتنا على مقارنة نسبة البطالة بين الأعوام، إذا ما تغيرت نسبة قوة العمل لإجمالي السكان بشكل كبير أيضًا، والحالة المصرية مثال جيد على ذلك أيضًا.
فقد انخفضت نسبة قوة العمل المصرية عام 2014 بنسبة 53%، لتصل إلى نسبة 48% في عام 2019، وذلك إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن سكان مصر زادوا 10 ملايين تقريبًا بين العامين نفسيهما، فعلينا أن نعلم حينها أن الانخفاض في النسبة لا يعكس بالضبط الانخفاض في عدد السكان الذين تركوا قوة العمل في مصر.
وتظهر البيانات الرسمية للبطالة في مصر انخفاضها من 13.1% عام 2014 إلى 7.8% عام 2019، ولكننا رأينا أن قوة العمل هي التي انخفضت حقيقة؛ وهذا يعني أن الاقتصاد لم ينتج فرص عمل جديدة كثيرة، بل قل من يبحثون عن العمل في مصر، ومن ثم فإن نسبة العاطلين (ممن يبحثون عن عمل) إلى إجمالي قوة العمل (من يعملون ومن لا يعملون بشرط بحثهم عن العمل) انخفضت.
دون أن يعني ذلك أن الاقتصاد المصري تحسن أو خلق فرص عمل جديدة، وإذا ما احتسبنا من خرج من سوق العمل في الفترة بين العامين ضمن البطالة فسترتفع هذه النسبة بشكل كبير جدًّا.
وخلال العامين المذكورين، خرج من قوة العمل في مصر ما يقارب مليون عامل (وهذا دون احتساب الزيادة في عدد السكان)، فإذا كانت الزيادة بين العامين نفسيهما 10 ملايين إنسان، وكان من هم في سن العمل يمثلون 60% من تركيبة المجتمع المصري، وافترضنا أن نسبة من سيرغبون بالعمل في وضع اقتصادي صحي في مصر من هؤلاء هو النصف فقط، وذلك لإزالة أثر من يخرجون من سوق العمل بسبب الموت والتقاعد وغيرها من الأسباب؛ فإن عدد العاطلين في عام 2019 يجب أن يكبر بأربعة ملايين؛ ولكن هؤلاء لا يظهرون في معدلات البطالة، وضمن هذه الافتراضات سترتفع البطالة إلى 20%.
كيف يخلق الواقع الاقتصادي ثقافة العمل؟
قد يكون للثقافة دور في انخفاض نسبة عمل المرأة، وهو ما يعني انخفاض نسبة قوة العمل، ولكن لا يمكن استخدام مثل هذه التفسيرات لفهم التغير في نسبة قوة العمل، وانخفاضها كما هو المثال المبين سابقًا في مصر.
تشكل مجموع عمليات الاختيار الفردية لمجموع من هم في سن العمل شكل السوق، ولنفترض أن حالة هذه السوق متراجعة بشكل مستمر ومسبب لليأس؛ هذا سيعني بالنسبة لبعض الأمهات أن تصبح ربة منزل على البحث عن عمل، أيضًا اختيار بعض الشباب التوقف عن البحث عن عمل والبحث عن الهجرة، أو الاعتماد على مصادر دخل أخرى من الأهل، أو حتى اختيار البدء باستهلاك المدخرات، مفضلين على ذلك وظيفة تغطي بالكاد المصاريف المترتبة على العمل في هذه الوظيفة، فالعمل يضيف مصاريف مثل المواصلات وغيرها، وكلفًا أخرى غير مادية أيضًا، من الضغط النفسي وغيره.
ولأسباب شبيهة ظهر مفهوم “العامل المُحبط – Discouraged Worker”، وهو شخص متاح في سن العمل، بحث سابقًا بشكل فعال عن العمل، ولكنه لم يجد عملًا مناسبًا، وتوقف عن البحث بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، ولعدم توقعه لتحسنها في الفترة القادمة، ما يعني خروجه تقنيًّا من حسابات معدل البطالة؛ رغم كونه مشكلة اقتصادية تجسد تعمق مشكلات سوق العمل وقلة الوظائف.
وهذه الحالة مختلفة عن البطالة الدورية، فالركود ينتهي مع الوقت، ومصر سجلت معدلات نمو إيجابية في الفترة نفسها، لكن النمو لا يعني التوزيع العادل لمكتسباته، وهذا كله يعني أن المشكلة في مصر مشكلة بنيوية لا تتعلق بالدورة الاقتصادية، بل مشكلة دائمة، وهي غير مرتبطة بتغيرات في ثقافة العمل، بل على العكس فإن التغيرات في ثقافة العمل ناتجة من تغير في الواقع الاقتصادي في هذه الحالة.
إذن فمن الممكن للإحصائيات الرسمية عن البطالة خداعنا؛ وتحتاج الدول العربية تطوير أو استخدام مؤشرات أخرى تساعد في فهم ظواهر العمل والبطالة، كما أن على الحكومات ألا تطمئن وتُطمئن مواطنيها بعد ظهور انخفاض مؤشرات البطالة، بل الواجب معالجة المشكلات البنيوية التي تجعل فئات واسعة من الشعب العربي خارج سوق العمل وقوة العمل تمامًا.