الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صناعة السياسة بين سطوة قوانين الاجتماع وقوة العجز البشري!

صناعة السياسة بين سطوة قوانين الاجتماع وقوة العجز البشري!

26.03.2018
وائل مرزا


المدينة
الاحد 25/3/2018
سؤالٌ يستحق التكرار والإعادة.. وإذ يمكن للإجابات أن تتعدد، يظل أقواها كامناً فيما يُسمى في علوم الاجتماع بصناعة السياسات العامة (Public Policy) . ليس لهذا علاقة بنوعية النظام السياسي. وسواء كان الأمر يتعلق برجل السياسة في أمريكا أو أوروبا أو آسيا أو الوطن العربي، فإن التحدي يبقى نفسه، تختلف طبيعته ويزداد صعوبةً في ظروفنا المعروفة.. لكن التحدي يبقى أكبر من تصور الكثيرين، وهو يتطلب مقادير جمة من التفكير والدراسة، خاصة في عالمنا العربي.
تدخل في هذا الإطار حتميةُ أخذ دروس التاريخ بعين الاعتبار، ومعها، كمقدمات لصناعة القرار، القوةُ الكامنة في قوانين الاجتماع البشري.. دون أن ننسى قوةً خفيةً ومُخيفة في الوقت نفسه: القوة التي تنبع من شعور العجز لدى الجماهير.
فعلى مدى التاريخ، تبدو مقولة رئيس الوزراء البريطاني الداهية، ونستون تشرشل، قابلةً للتطبيق: "هناك دائماً من يرفضون التعلم من التاريخ.. ومشكلة هؤلاء أن لعنة إعادة (أخطائه) ستصاحبهم على الدوام".
قد يكون التاريخ معرضَ المستحيلات بين حين وآخر، بمعنى إمكانية حصول أي شيءٍ فيه، وخاصةً من تلك الأحداث التي لا يتوقع البشر رؤيتها. لكنه غالباً مصنوعٌ من وقائع كبرى حصلت كنتيجةٍ طبيعية لسريان قوانين الاجتماع البشري، وسَطوتها القاهرة أحياناً.
من هنا، تصبح الحسابات الدقيقة مطلوبةً بإلحاح في صناعة السياسة، لتجنب تأثير تلك القوانين، والسلبي منها تحديداً، في حال اختلال التوازنات الحساسة، جداً أحياناً، في أحشاء الواقع الاجتماعي بمكوناته الثقافية والاقتصادية. وتزداد الحاجة لذلك عندما تحدث نقلةٌ في تلك الصناعة، تتصف بقوتها وجِدّتها وسرعتها، في كل مجال.
هنا تحديداً، تخاطبنا مارغريت مكميلان، أستاذة التاريخ بجامعة أكسفورد، بمقولةٍ مُعبّرة باتت مشهورةً في دوائر علم التاريخ: "يمكن لنا أن نتعلم من التاريخ، لكن من الممكن أيضاً أن نقع في مأزق حين نختار، بشكلٍ انتقائي، شواهد وأدلة من الماضي، تُبررُ ما قررناهُ ابتداءً".
وفي قوانين الاجتماع البشري ماهو لينٌ ومرن، لكن فيها أيضاً ما يكون صلباً وقابلاً للكسر، بما يُذكّرُنا بما يُسمى أيضاً في علم الاجتماع بـ"قانون فود - Fudd’s law" الذي يؤكد بأنه: "بإمكانك أن تدفع شيئاً ما بقوةٍ كافية، وسنضمن لك أنه سيؤول للسقوط".
والحقيقة أن تكرار هذه المقولات نفسها في هذا المقال هدفٌ بحد ذاته، لأنها تُعبر عن شيوع القواعد التي تنطوي عليها، ما يؤكد بدوره خطورة التعامل معها.
ثمة قوىً في هذا العالم، تبدو كثيرة، لا تريد خيراً ببلاد العرب، شرقاً وغرباً. وهي لن تتردد في اقتناص كل فرصةٍ في الواقع العربي لصب الزيت على النار كما يُقال في أمثالنا. خاصةً في ما يتعلق بتأجيج الغليان الجماهيري في كل مكانٍ يمكن أن يحدث فيه هذا الأمر. تَعلمُ هذه القوى أن ثمة نوعاً غريباً من القوة ينبع من العجز البشري.. وهو نوعٌ يجدر الانتباه إليه في العالم العربي تحديداً هذه الأيام.
لا يمكن للعجز مثلاً أن يتجلّى في مشهدٍ أكثر من أن يحرق الإنسان نفسه.. هذا ما فعله مواطنٌ في بقعة نائية من جنوب تونس منذ سنوات. لكن قوة العجز تجلّت بدورها في الأحداث التي فجّرتها تلك الممارسة.
والعجز شعورٌ هائلٌ ومدمِّر.. وحين لا يُعالج بالطريقة المناسبة، فإن نهايته تكون دوماً إلى الانتحار.. وهذا الانتحار إما أن يكون ذاتياً مقصوراً على النفس، أو يكون انفجارياً على قاعدة (عليّ وعلى أعدائي) المعروفة، وبشكلٍ يعبّر، بقسوة، عن ذلك الشوق الكامن في الأعماق للتغيير، والمتداخل مع شعورٍ فظيعٍ بالافتقار لأي طريقةٍ من طرق التغيير، اللهم سوى التغيير عبر إلغاء هذا الوجود الذي يصعب فيه التغيير. أي عبر إنهاء وجود العاجز ووجود الآخر كلياً. وفي الحالتين، يعاني المجتمع الذي توجد فيه هذه الظواهر من آثارها بشكلٍ مؤلم، وعلى جميع المستويات.
لكن المشكلة تفرض نفسها نهاية المطاف.. فإذا ما عمّ الشعور بالعجز في أي مجتمع، فإنه يُولّدُ قوةً عشوائية وفوضوية ضخمة لا يمكن أن تقف في وجهها أي قوة، ويخلق واقعاً معقداً لا يمكن التعامل معه أبداً بعقلية إدارة الأزمات.
يبدو طبيعياً، لهذا، أن نختم الحديث بمقولة إدواردو غاليانو، الروائي والأديب والصحافي الشهير في الأورغواي وأمريكا اللاتينية، قال فيها: "لن تسمع التاريخ أبداً وهو يخاطبك بعبارة: إلى اللقاء. وإنما سيقول على الدوام: أراك لاحقاً"