الرئيسة \  واحة اللقاء  \  صناع السياسة في العالم بين مطرقة وباء كورونا وسندان الكساد الاقتصادي

صناع السياسة في العالم بين مطرقة وباء كورونا وسندان الكساد الاقتصادي

16.04.2020
إبراهيم نوار



القدس العربي
الاربعاء 15/4/2020
تتوزع هموم صناع السياسة في العالم هذه الأيام، بين الرغبة في تجنب انتشار وباء فيروس كورونا، والحاجة إلى إعادة تشغيل الاقتصاد، الذي توقفت عجلته تقريبا عن الدوران، ما يهدد بحدوث كساد طويل وعميق، لم يشهده العالم منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تتبخر فيه قيمة الأصول المالية، وترتفع فيه البطالة بمعدلات صاروخية. المعضلة التي يواجهها السياسيون، خصوصا في الدول الصناعية المتقدمة، أنهم لا يجدون سياسة واحدة تحقق الهدفين في وقت واحد، ما يعرض الاقتصاد لخطر الكساد.
ومع أن بعض قادة العالم، مثل ترامب في الولايات المتحدة وبولسونارو في البرازيل، يحاولون تجاهل خطر الوباء، أو التهوين منه لإعادة تشغيل الاقتصاد، فإن هؤلاء لا يستطيعون فرض سياستهم، خشية الأضرار الصحية الكارثية، التي يمكن أن تحدث. ولهم فيما يحدث في نيويورك عبرة. وطالما لم يتوصل العلماء لابتكار دواء للعلاج ومصل للوقاية، سيظل خطر العدوى والوفيات قائما.
لقد جسدت التحديات التي تكاثرت على العالم، منذ بداية العام الحالي، حقيقة أن التقسيم الدولي الجديد للعمل، من خلال سلاسل إنتاج القيمة والإمدادات العالمية، وليس من خلال نمط تقسيم العمل الإمبريالي، أو الاستعماري، يفرض إعادة النظر في فلسفة العلاقات بين الدول؛ فتوقف الإنتاج في دولة، يصيب سلاسل الإمدادات باضطراب، يصيب كل عجلة الإنتاج في الدول الأخرى. فيروس كورونا لم يفرق بين الصين الشيوعية والولايات المتحدة الرأسمالية، بل إن النجاح أو الفشل في مكافحة الوباء، لم يكن من نصيب نظام سياسي أو اقتصادي بعينه، فقد نجحت كوريا الجنوبية الرأسمالية، بينما فشلت إيطاليا. وفي النظم الشمولية نجحت الصين، بينما فشلت إيران. ولبيان اختلاف التقسيم الدولي للعمل حاليا، يكفي أن نشير إلى أن نمط التجارة بين فيتنام الشيوعية والولايات المتحدة زعيمة النظام الرأسمالي العالمي لا يعكس سمات تقسيم العمل الإمبريالي، من حيث التخصص في إنتاج المواد الأولية؛ بل على العكس، فإن فيتنام تستورد القطن الخام من الولايات المتحدة، وتعيد تصديره إليها في صورة ملابس جاهزة.
المعضلة الراهنة التي يواجهها صناع السياسة في العالم، فيما يتعلق بمواجهة الكساد تفرض الحاجة إلى تفكير جديد يستلهم دروس الماضي القريب، ويستكشف آفاق المستقبل، وينطلق من حقائق الحاضر الذي نعيشه. بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي ومنظومة القيم السائدة في المجتمعات المختلفة، يمكننا حتى الآن استخلاص الدروس التالية من تجارب العمل على احتواء فيروس كورونا. ولتجنب الدخول في تعقيدات اختلاف تأثير النظم على السياسات، فسوف نقارن، على وجه العموم، بين كل من الولايات المتحدة التي تمثل الآن أقصى نماذج الفشل في مواجهة الوباء، وكوريا الجنوبية التي تمثل أفضل نماذج النجاح:
أولا: في سرعة التصدي للفيروس، بين استراتيجية الرد السريع، والميل إلى الاستهتار والتهوين من الخطر. نلاحظ أنه بينما سجلت كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أول الإصابات بالفيروس في وقت واحد تقريبا (19 يناير في الولايات المتحدة، و20 يناير في كوريا) فإن واشنطن تأخرت نحو ستة أسابيع في إعلان إجراءات احترازية لمكافحة الفيروس، في حين أن سيؤل تصرفت فورا في اتجاهات متعددة وبسرعة. واستطاعت خلال أسبوع واحد أن تبلور استراتيجية شاملة وخطة عمل قابلة للتطبيق.
ثانيا: المبادرة بعزل البؤرة المصابة بالفيروس من خلال إجراءات صارمة، تنطلق من أن الفيروس تهديد خطير للحياة البشرية، يوجب حصاره، واحتواء خطره، بعيدا عن الأماكن الاستراتيجية مثل، المراكز السياسية والاقتصادية في الصين وكوريا الجنوبية، مقابل تهاون وصل إلى حد جعل العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة، والعاصمة المالية للعالم، أكبر ضحايا الفيروس في نصف العالم الغربي، ومعها عواصم أخرى مثل مدريد وباريس ولندن.
ثالثا: الفشل في إدراك الطابع البيئي العالمي للفيروس، هو ما خلق إغراء لدى الولايات المتحدة لـ(تسييس الفيروس) واستخدام انتشار الوباء كسلاح من أسلحة الحرب الباردة ضد الصين، من خلال إطلاق أوصاف على الفيروس مثل (الفيروس الصيني) او (الكونج فلو). كوريا الجنوبية على العكس من ذلك كانت تتعلم من التجربة الصينية، وكانت دائمة التواصل مع منظمة الصحة العالمية. وعندما أوصت المنظمة بضرورة تكثيف الكشف المبكر عن الفيروس، كانت جاهزة تماما للقيام بذلك.
رابعا: الفشل في إدراك أن طوق النجاة من خطر الفيروس هو التعاون العالمي في مكافحته، والحد من انتشاره، وإيجاد دواء لعلاجه ولقاح للوقاية منه. وقد تجسد هذا الفشل في استخدام الحلول القومية داخل الدولة الواحدة، بديلا عن التعاون الدولي. الجديد الآن هو ما يتردد داخل أروقة منظمة الصحة العالمية، من أن الفيروس يمكن أن يصيب المرضى الذين تم علاجهم منه، وهو ما يجسد خطر انتشار موجة ثانية من الوباء. كوريا الجنوبية وعدد من بلدان العالم لاحظوا ذلك، وأرسلوا تقاريرهم بهذا الخصوص إلى المنظمة. هذا يؤكد انه لا بديل عن التعاون العالمي الجاد والشامل، وأن الحلول القومية ستسقط في مواجهة الهجوم العولمي للفيروس. هذا التناقض بين الطابع العالمي للفيروس والطابع القومي للحلول المعمول بها حتى الآن، يمثل أحد روافد الخطر الذي يهدد العالم.
خامسا: من أخطر نتائج الحلول القومية حاليا ظهور بوادر حرب تجارية، تحد من إمكانيات التعاون الدولي، لإيجاد دواء لعلاج الفيروس. الولايات المتحدة على وجه الخصوص، تنبني استراتيجيتها في العلاج والوقاية، على أساس اعتبارات التربح من الأزمة إلى أقصى حد ممكن، بالعمل على احتكار المواد الفعالة، التي يمكن أن تدخل في أدوية علاج الإصابة بالفيروس، أو ابتكار لقاح للوقاية منه. وتشهد سوق الأدوية في الوقت الحاضر ميلا ضاريا ناحية الاحتكار والتربح، كذلك الحال في سوق الأجهزة والأدوات الطبية المرتبطة بمكافحة الفيروس.
 
بعض قادة العالم، يحاولون تجاهل خطر الوباء، أو التهوين منه لإعادة تشغيل الاقتصاد
 
سادسا: نظرا لما اظهرته الدراسات العلمية الأخيرة عن التكوين البيولوجي لفيروس كوفيد- 19، وما أشارت إليه من تنوع وتعدد سلالاته المنتشرة في العالم حاليا، وسرعة تحوره قياسا إلى أي فيروس آخر، وبمقارنة أرقام الإصابة بالفيروس في افريقيا، مع غيرها من قارات العالم، يجب التحذير من خطورة تحور الفيروس في افريقيا، إلى حد إنتاج سلالة جديدة أشد فتكا وأسرع انتشارا. وتدل مؤشرات انتشار الفيروس في الجزائر، وارتفاع معدلات الوفاة، إلى واحد من أعلى المعدلات في العالم (10% حسب تقدير منظمة الصحة العالمية)، على أن الفيروس في افريقيا ربما يكون في مرحلة من مراحل التحور، وهو ما قد يسفر عن إنتاج سلالة جديدة تصبح تهديدا جديدا للعالم. هذا يستدعي أن تتولى منظمة الصحة العالمية، تنسيق برنامج للتعاون الدولي لإبعاد خطر تحور الفيروس في افريقيا، وظهور موجة ثانية.
على الصعيد الاقتصادي تبدو الصورة في النصف الغربي من العالم على النقيض مما هي عليه في النصف الشرقي. وإذا أخذنا الصين أو كوريا الجنوبية، مثالا للصورة في النصف الشرقي من العالم، بينما الولايات المتحدة وإيطاليا أو إسبانيا مثالا للنصف الغربي، سندرك مدى تباين ملامح الصورة، وكأننا إزاء عالمين مختلفين. وبينما بدأ الفيروس رحلة انتشاره عالميا من الصين وكوريا واليابان، قبل أن تصبح هناك خبرة في مكافحته، فإن الخسائر الاقتصادية في بلدان جنوب شرق آسيا مثل، الصين وكوريا وتايلند واليابان وفيتنام وكمبوديا، هي أقل بعشرات المرات من الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها حتى الآن الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. الحل الجزئي الآن هو تخفيف الإجراءات الاحترازية، مع ان ذلك ما يزال يحمل معه خطر الإصابات والوفيات، حتى يتم تعميم أدوية للعلاج والوقاية.
ورغم ضخامة المخصصات المالية الطارئة للتنشيط النقدي والمالي والاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن النزعة القومية التي تنطلق منها برامج، أو خطط التنشيط، تصطدم مع احتياجات التعاون المعولم لمواجهة الآثار الاقتصادية الكارثية لوباء كورونا. هذا الصدام بين الطابع العالمي للأزمة والحلول الاقتصادية القومية، كشف الغطاء عن القصور الشديد في برامج التحفيز، أو التنشيط الاقتصادي. وقد تجلت مظاهر هذا القصور في الحاجة لمراجعة سياسات التنشيط وتوسيع نطاقها، وزيادة قيمة الموارد المالية المرة بعد المرة، وانتشار الميل إلى الحماية التجارية، الذي وصل في بعض الأحوال، إلى درجة الحرب التجارية ، كما حدث في سوق النفط، وكما يحدث في سوق الأدوية والأجهزة الطبية.
وكما قلنا في معرض مكافحة انتشار الوباء بشأن الحاجة إلى سياسة عالمية منسقة، تكون البرامج القومية، جزءا منها وليست بديلا عنها، فإننا نكرر النظرية نفسها فيما يتعلق بمواجهة التداعيات الإقتصادية للوباء. لن تستطيع برامج التنشيط ذات الطابع القومي بمفردها أن تنقذ الاقتصاد العالمي، وإنما يجب أن تكون ضمن حزمة عالمية مترابطة، تتكاتف فيها جهود الحكومات والمؤسسات الدولية والشركات، من أجل انتشال الاقتصاد من هاوية الركود، إلى فضاء النمو الصحي المستدام للدول المتقدمة والنامية على السواء، وبصرف النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي والسياسية للدولة. إن جزءا كبيرا من الخسائر الاقتصادية التي تعرضت لها وما تزال دول النصف الغربي من العالم، يعود إلى الطابع القومي للسياسات، التي تم الاعتماد عليها لمكافحة انتشار الوباء. وبسبب الفزع من خطورة انتشار الفيروس، جرى التوسع في فرض إجراءات شاملة تمثل في مجموعها كابحا للنمو، أدت عمليا الي شلل في كل القطاعات غير الحيوية، وتركت في دائرة العمل فقط قطاعات الرعاية الصحية والإمدادات الغذائية والشرطة. وتتضمن السياسات المعمول بها لمكافحة الوباء إجراءات متطرفة ذات طابع قومي، شملت إغلاق الحدود ووقف رحلات الطيران، ومنع الأجانب من دخول البلاد، كما فعلت إيطاليا والولايات المتحدة على سبيل المثال. مثل هذه الإجراءات المتطرفة لم تثمر في إيطاليا، على العكس من ذلك فما تزال مطارات الصين وكوريا الجنوبية تستقبل المسافرين من كل أنحاء العالم، مع اخضاعهم للفحص، وفرض إجراءات الحجر الصحي على من تثبت إصابته.