الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ضبط إيقاع "الثورتين السوريتين" من العراق؟

ضبط إيقاع "الثورتين السوريتين" من العراق؟

18.03.2014
عبد الأمير الركابي


الحياة
الاثنين 17/3/2014
ثبت بالوقائع ان سورية "سوريتان"، هذا ما جعل "ثورتها" تنقسم الى "ثورتين"، الاولى ثورة الساحل المدينية وفي قلبها دمشق، يتناغم معها مدينياً، الى الشرق، الإحجام الحلبي المبكر. تلك كانت سلمية، تحركها في الأفق العام قوى مدنية، منطلقاتها تقول بالحفاظ على الدولة والكيان والمؤسسات، وتريد تحولاً ديموقراطياً يكمل المسار الحداثي السوري المعاصر. الثانية، ثورة الداخل والجزيرة السورية، اسلامية سلفية، عنفية اصلاً، نافية لـ/ ومتصادمة مع/ التمثيل العام لكل تجليات الحداثة، تريد "دولة خلافة"... هاتان ثورتان ومجتمعان.
ليس المجال هنا مجال البحث في التشكلات الناجمة عن الهياج العشائري الكبير الاخير في الصحراء الممتدة من شبه الجزيرة العربية نحو بادية العراق والاردن والجزيرة السورية-العراقية. ذلك الهياج دام قبل استقراره اكثر من قرنين من التقاتل والإزاحات التي استغرقت القرن الخامس عشر حتى اواخر السابع عشر، وانتهت الى توطن قبائل جديدة، هي موجة الفيض الجزيري الاخير، التي تضم شمر وعنزة والظفير، وظلت جسماً غير متأقلم تماماً مع الكيانات الجديدة التي حلّت فيها. طرفيتها تؤخر اندماجها، ما جعلها تحتفظ بطابعها القبلي الرعوي جوهراً، وتستمر غير متعرقة تماماً في العراق، وغير متسورة في سورية، ولا تحتاج الى التأردن في الاردن.
اذا تجاوزنا فعل العمود الفقري النهري العراقي، وفعاليته الكيانية وعلى مستوى الدولة، ومن ثم الأثر الاحتوائي الاكثر دينامية على القبائل المتوطنة فيه، لن نعثر في سورية على آلية إدراج أو احتواء الفيوضات البشرية الوافدة، كما هو حال العراق على مر التاريخ. فهنالك وحدة مسار تشكل وطني عراقية حديثة لم تصل الى غايتها بعد، بينما المسار نفسه في سورية بطيء يفتقر الى ميكانيزمات التدامج، إلا ساحلياً. فالجزء الساحلي السوري مع تعدديته، مطبوع بخاصيات انسجام متولد عن القدم التاريخي، كمثال وضع السويداء في علاقتها بباقي المكونات السورية. ومع تمحور الساحل في العقود الاخيرة حول دمشق على حساب حلب، وتركز الدولة والنشاط الاقتصادي في العاصمة، مقابل تراجع الانفتاح التجاري التقليدي، ما كان يمنح حلب مركزية داخلية مضاهية للشام، تعاظم الافتراق بين المجالين. القبائل التي نتحدث عنها في العراق تتوضّع الى الغرب منه، محتلة مساحة تساوي كل مساحة سورية، بينما امتدادها داخل سورية يساوي اكثر من نصف المساحة السورية، مع إلحاق درعا بالمحيط ذاته، ما يعني مدى يفوق مساحة سورية الحالية، ويضم مدناً تاريخية عريقة، منها حلب والموصل، عدا عن مدن فرعية لا تفتقر الى الأهمية.
يتجه هذا المجال اليوم الى ابتداع ملامح ذاتية جديدة، يحركها، في العراق، افتقار الى الاسباب التي ادت في الماضي الى انكفائها على الداخل، سواء باحتفاظها بحرية ممارسة عالمها البدوي الرعوي ايام العثمانيين مع مقدار من ممارسة اقتصاد ريع الغزو و "حماية الطرق"، او بتدرجات انخراطها في الدولة العراقية الحديثة بعد 1921، الى ان تحولت الى احدى ركائز النظام البعثي العراقي في العقدين الاخيرين من وجوده، بينما ولّد طرد هذه الكتلة من مؤسسات الحكم والسياسة بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 وتهميشها، ميلاً الى تنمية ذاتية، اتخذت مظاهر عدة، قبل ان يأتي الحدث السوري ليمنح وتيرة بلورة تلك الذاتية دفعاً وليسرّع من تناميه متكئاً على البنية القبلية والشعور بالاستبعاد المزدوج. وهذا ما يمنح "داعش" خلفية تتجاوز كونها مجرد تنظيم متطرف، بحيث تقترب من حيازة مبررات جغرافية وبشرية.
كل هذا يبقى خارج التفسير وفق الرؤية الإنشائية التي تقف عند تعابير مثل "الثورة" وسرقتها، او ما طرأ على مسيرتها من انحراف غير معلل تماماً، نحو السلاح، في حين تنمو كيانية "جزيرية" منفصلة (اصبحت لـ "داعش" أخيراً عملة خاصة) هي عرض من أعراض الثورة والديكتاتورية معاً، او من كوارثهما الراهنة والمحتملة، بمقدار ما ينطوي عليه من تشكل مجال بشري وجغرافي متصل ومتوافق مع الفكرة السلفية، حتى من دون ذكر رمزية "الدولة الحمدانية" المختلفة مذهبياً.
لم يسبق لمثل هذا الاحتمال ان لوحظ من بناة فردوس الثورة التخيّلي، بينما التداعيات المرعبة والتشابكات تفرخ نتائج واحتمالات خارج كل الحسابات، فهل تتحول "داعش" التي ابتدأت في العراق، على وقع المقاومة العراقية المسلحة بعد 2003، الى نواة تعبير "وطني" مقارب، او له انتساب الى نموذج الوطنية الاسلامية السلفية المتغذية من بنية قبلية متعطشة الى التعبير عن ذاتها، وصولاً الى اظهار خصوصية يغذيها غياب الاندماج وضعف الإرت الوطني المشترك مع الكيانين، ام ان قوى اخرى من المعسكر نفسه ستقوم بذلك (النصرة مثلا)؟
الظاهر ان مثل هذه الاحتمالات اصبحت شاغلاً للقوى الكبرى، ما يجعلها تلتقي على مبدأ قطع هذا المسار عبر العراق، حيث الساحة الاوسع لـ "داعش"، كما الاكثر قابلية للاحتواء، بحكم موارد النفط، وتراث الدولة، وعنصر الغالبية الممسك بالحكم. فإذا اختنقت "نواة دولة الجزيرة" في الرمادي وصحرائها، سهل خنق "داعش" سورية. لهذا تذهب طائرات الاباتشي الى العراق، في حين يحاصر الجيش العراقي الفلوجة والرمادي، في الوقت الذي تجوب طائراته سماء الصحراء منذ 21 /12/ 2013، ملاحقة مجموعات ومعسكرات "داعش" استناداً الى إحداثيات وخرائط أميركية دقيقة، مأخوذة بالأقمار الاصطناعية، وصواريخ سلّمت الى الجيش العراقي، مخصصة لهذا النوع من المهمات.
العراق سيحصل ايضاً على طائرات f16 في حزيران (يونيو) المقبل، وهو ينتظر الآن وصول 200 خبير اميركي لتدريب الطيارين، والارجح ان هذه مجرد طلائع لما يعتبره البعض الاحتلال الاميركي الثاني. وقد بدأ، وسيتطور، متداخلاً هذه المرة مع المؤسسة العسكرية العراقية الوليدة، فيرعى تطورها ويضخها بالخبراء والاسلحة والمعدّات، مع عدم استبعاد احتمال استعمالها مستقبلاً، حتى للإمساك بالوضع العام، وإنهاء فترة التخلخل والتفكك وتغول الفساد والطائفية وفقدان الأمن. اذ يبدو ان الولايات المتحدة ندمت على ما ارتكبته بعد الاحتلال عام 2003 يوم حلّت الجيش وسحقت الدولة.
الارجح ان "جنيف 2" وتوابعه، لن تصل الى نتيجة فعلية، بالأخص من الناحية العملية، قبل ان تنتهي جولة الرمادي وصحرائها. عدا ذلك سيبقى المدى السوري العراقي متفجراً، وسيمنع ترجمة الحلول الساحلية. والمرجح، بناء عليه، عدم توقع حلول مرضية قبل ان يستتب الامر في الصحراء الممتدة بين الفلوجه والحدود السورية.