الرئيسة \  واحة اللقاء  \  على رقعة الشطرنج… كييف مقابل دمشق

على رقعة الشطرنج… كييف مقابل دمشق

02.03.2014
أسامة مصالحة


كاتب فلسطيني
القدس العربي
السبت 1/3/2014
تُعيد الأزمتان، الاوكرانية والسورية، أطروحات ‘الجغرافيا السياسية’، أو ‘الجيوبوليتيكا’، الى واجهة الأحداث من جديد. ففي الأزمات السياسية الكبرى، تحديداً، تتكشف ‘الجغرافيا السياسية’ عن إغراء ما، فهي تخفي أكثر مما تبدي، وتصمت أكثر مما تقول؛ ذلك أن أطروحاتها كانت دائما ما تُطبخ داخل دوائر اكاديمية وأمنية مغلقة يكتنفها الغموض وتحف بها الأسرار.
في هذه الأطروحات، تختلط الخرائط بسياسات الهوية بأنابيب النفط بتصورات خاصة عن القدر الحضاري. وفيها، على ما كان هالفورد ماكيندر يقول، يمتزج المسح المكثف ب’التركيب الفلسفي’، منتجاً مفاهيم تتعلق بالمجال الحيوي، مناطق النفوذ، تقسيم العالم، خطوط التماس ونطاقات تصادم القوى.
لكن- وعلى غرار سؤال ترتوليان الشهير’ما الذي يربط اثينا بالقدس- فما الذي يربط كييف بدمشق؟
الإجابة الروسية المختزلة على هذا السؤال تقول أن كلتا الأزمتين، الاوكرانية والسورية، تم ‘فبركتهما’، في بعض معامل صناعة الثورات، بهدف تفكيك ‘الحضارة الروسية’ لاغير.
بتوسع أكبر، تتشكل الأطروحة الروسية من رواية ذات شقين. الشق الأول، وهو ما يتعلق بسوريا، يذهب الى أن مسعى الغرب الى سحب البساط من تحت أقدام روسيا في سوريا سوف يجعل ظهر الجنوب الروسي منكشفاً أمام مد ‘الراديكاليات الأسلامية’ التي تخوض روسيا ضدها حرباً ضروساً في الجنوب.
الشق الثاني يقول أن المشروع الغربي في اوكرانيا لايهدف فقط الى الحاق اوكرانيا بالاتحاد الاوربي فحسب، بل يهدف، ايضاً، الى ادخالها في حلف شمال الاطلسي. وهذا سوف يشكل تهديداً وجودياً لروسيا. ف’كييف’ ليست عاصمة اوكرانيا فحسب، بل هي مهد ‘الحضارة الروسية’ نفسها. كلتا الأزمتين، إذا، تنتميان الى ذات النوع من التهديد لكن مع اختلاف بالدرجة.
لا يعتقد الروس أن أطروحتهم تنبع من الفراع أو أنها ضرب من هلوسة. فـ’الجغرافيا السياسية’ الغربية، على تعدد مدارسها وتناقضاتها، كانت قد رسمت، فعلاً، استراتيجيات تعمل على ‘احتواء’ روسيا منذ زمن طويل. تحيلنا الإجابة الروسية الى التراث الفكري ل’الجغرافيا السياسية’ الغربية بدءاً بهارولد ماكيندر مروراً بسبيكمان وفوكووياما وهنتنغتون وجورج كينان وليس انتهاءً بكيسنجر وبريجنسكي. فلقد بنى هارولد مايندر، أحد الآباء المؤسسين للجغرافيا السياسية الحديثة، أطروحته الشهيرة ‘المحور الجغرافي للتاريخ’ على فكرة أن ‘من يحكم اوربا الشرقية يسيطر على قلب العالم، ومن يحكم قلب العالم يسيطرعلى جزيرة العالم، ومن يسيطر على جزيرة العالم يحكم العالم’. و ‘المحور الجغرافي’، أو ‘قلب العالم’، هنا، هو روسيا. لكن ماكيندر ربط قدرة روسيا على السيطرة على العالم بامتلاكها كل من التنظيم المتطور والتكنولوجيا. فشل الاتحاد السوفييتي على تحقيق هذا الهدف الكبير، بالرغم من سيطرته على اوروبا الشرقية، أثناء الحرب الباردة، عُزي الى افتقاره الى تلك المستلزمات. أما نيكولاس سبايكمان، عراب سياسة ‘الاحتواء’ الاميركية، فقد اعاد تنقيح اطروحة ماكيندر بطريقة استبدل فيها اوربا الشرقية ب’ألارضي المحيطة’، أو الحافة’، وهما، هنا، دول الشاطئ الاوربي ودول الشرق الأوسط وبالدرجة الثانية ‘آسيا المدارية’. وخرج سبايكمان بمقولة أن من يحكم ‘حافة الأرض’ يحكم اوراسيا، ومن يحكم اوراسيا يتحكم بمصير العالم’. أعتمد جون فوستر دلاس، مؤسس ‘حلف الناتو’ وشقيق مدير وكالة السي آي ايه و وزير الخارجية الامريكي، في خمسينات القرن الماضي، أطروحات سبايكمان وماكيندر، تماماً كما فعل كيسنجر في دبلوماسية ‘البنغ بونغ’. أما بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق فلقد أعاد، في كتابه الذائع الصيت ‘لعبة الشطرنج الكبرى’، طرح افكار ماكيندر وسبايكمان من جديد.