الرئيسة \  مشاركات  \  على سبيل النقد الذاتي : الصبيانية اليسارية في حزب البعث

على سبيل النقد الذاتي : الصبيانية اليسارية في حزب البعث

19.04.2014
د. محمد أحمد الزعبي




مدخل :
عندما قرأ لينين في إحدى أدبيات الحزب الشيوعي الألماني مانصه " هناك ديكتاتورية الزعماء ، وهناك ديكتاتورية الجماهير ، هذا هو شعارنا " ، علق على هذا الكلام بقوله " ياله من هراء قديم ، ومعروف من زمان ، يالها من صبيانية يسارية " . إن مثل هذ ا التقسيم للشعب ،إلى زعماء وجماهير ، يذكر ( مع الفارق بطبيعة الحال ) بتقسيم حزب البعث ، ولا سيما بعد 1963، الشعب إلى نخبة / طليعة ( هي هنا حزب البعث ) ، وجماهير ( بقية أفراد الشعب )عليها ( أي الجماهير)أن تتبع هذه النخبة التي ستقودها إلى السعادة . وبعد تحويل حافظ الأسد الصبيانية اليسارية، التي كانت تتعايش في إطارها سلبيات وإيجابيات هذا الحزب إلى صبيانية يمينية، باتت مسيرة الحزب خالية من أية إيجابيات.
نعم ، صبيانيتان، يسارية ويمينية ،أوصلتانا إلى هذا الدرك المؤلم والمؤسف ، درك البراميل المتفجرة ، الذي نحن عليه الآن ، تلك هي الحقيقة.
ومن جهة ثانية ، لابد من الإشارة ، إلى أن ماسنورده في الفقرات التالية ،من بعض الحوادث السلبية ، التي ينطبق عليها الوصف اللينيني السابق ( الطفولة اليسارية ) إن هو إلاّ من قبيل استعادة الحدث على مستوى الذاكرة . وبما أن هذه الأحداث تبعد عني قرابة نصف قرن من الزمن ، فإنني أخشى ألاّ تكون" موضوعيتي " التي أعتز بها ، كافية لكي تعصمني من الخطأ والخلل ، وفي هذه الحال لاأملك إلاّ أن أسأل الله أن يلهمني الصواب ، وأسأل من يمكن أن أكون قد أخطأت بحقهم ، أحياء كانوا أم أموات قبول اعتذاري .
الحادثة الأولى :
من المعروف أن عدداً من الطائرات الإسرائيلية قد اخترقت الأجواء السورية في أفريل عام 1967 ، وصرح رئيس الأركان السوري يومها ، أن الطيران السوري قد أسقط أربعاً من هذه الطائرات . من جهتي صدقت ما أعلنه رئيس الأركان ( وقد كان واقعياً مخالفاً للحقيقة )، وسارعت إلى الإدلاء بتصريح صحافي ( كوزير إعلام ) استشهدت، فيه بمقولة ماوتسيتونج المشهورة " إن الإمبريالية نمر من ورق " ، بل إنني قلت في حينها " إن الإمبريالية أقل من نمر من ورق !! " .
وعند زيارتنا لموسكو( الدكتور نور الين الأتاسي ، ابراهيم ماخوس ، محمد الزعبي ) في أواخر شهر ماي 1967 ( قبيل حرب حزيران وفي إطار حوارنا مع الاتحاد السوفياتي حول نذر هذه الحرب )، أشار السيد كوسيجين ( رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي آنذاك ) في حديثه معنا ، بأن الإمبريالية ليست نمراً من ورق ، كما يعتقد البعض ( وكان يشير بذلك إلى تصريحي الصحفي السابق ) والذي أعترف اليوم انه كان يدخل في إطار مفهوم " الطفولة اليسارية " ، الذي جلب لشعبنا العربي عامة ، والسوري خاصة ، كل السلبيات التي أوصلتنا إلى مانحن فيه وعليه اليوم ، والتي
من المطلوب من شباب ثورة آذار 2011 ، وقادتها العسكريين والمدنيين أن يتلافوها ،
فالصبيانية بشكليها اليساري واليميني ، هي نوع من "التطرف "، والتطرف مرض ، والمريض لايحق له قيادة الأمة لاإلى اليمين ولا إلى الشمال .
ومن جهة أخرى،فإن كلا من بريجنيف وكوسوجين قد طلب منا ، ألاّ نستعجل الحرب ، لأن عاصمتنا دمشق بحاجة إلى حماية جوية ، وأنهم سيزودونا بهذه الحماية خلال شهر ( صواريخ نوعية جديدة مضادة للطائرات ) ، وطلبوا أن نرسل إلى موسكو فوراً وزير الدفاع ( حافظ الأسد ) للاتفاق معه على تفاصيل هذه الصفقة . وعند خروجنا من الجلسة مع القادة السوفييت ، قال واحد منا منزعجاً من الموقف السوفييتي الذي طالبنا بالتعقل وعدم استعجال الحرب مع إسرائيل " إنهم لايريدوننا أن نحرر أرضنا "
ويمكن إدخال مثل هذا الرأي – حسب تقديري –الذي قاله واحد منّا أيضاً في إطار عقلية " الطفولة اليسارية " ، إن لم يكن أكثر ، لأن الاتحاد السوفييتي – على مايبدو – كان يعرف الطبيعة الحقيقية للنظام السوري في تلك الفترة ، عندما طالبنا بالتعقل وعدم استعجال الحرب .
الحادثة الثانية :
عندما كنت وزيراً للإعلام في وزارة الدكتور يوسف زعين ( 1966 – 1967 )
زارني في مكتبي وفد من رجال الدين بمعية أستاذ سابق لي في دار المعلمين بدمشق
هو المرحوم عبد الرحمن الباني ( إن لم أكن مخطئاً في تذكر الإسم )، وقد كان طلب هذا الوفد مني بسيطاً وممكناً ، ألاوهو ترحيل تلاوة القرآن الكريم عند افتتاح تلفزيون دمشق ،ساعة نحو الأمام لكي يستمع إليها أكبر عدد من الناس . اعتذرت يومها لأستاذي الكبير والمحترم عن تلبية هذا الطلب البسيط ، وهو مالم يكن يتوقعه مني بالتأكيد . إنني أشعر الآن بالأسف الشديد ، بل بالخجل الشديد ، لعدم تلبيتي طلب ذلك الأستاذ والشيخ المحترم ، وللوفد الكريم الذي كان معه ، ولا أملك الآن إلاّ الاعتذار ، والاعتراف بأن الذي كان يقفوراء مثل هذا السلوك ، هو بدون شك ، " الطفولة اليسارية " التي كنت عليها أنذاك رحم الله أستاذي الكبير عبد الرحمن الباني .
الحادثة الثالثة :
جرت العادة في سوريا ، أن يقام في محافظة السويداء ( مقر قائد ثورة ال1925 السورية ضد الفرنسيين ، سلطان باشا الأطرش ) احتفالاً كبيراً ومهيباً في كل عيد جلاء ( 17 نيسان من كل عام ) ، حيث يشارك في هذا الاحتفال كل من الباشا و ممثل عن رئيس الجمهورية يحضر من دمشق . وجرت العادة أيضاً أن يأتي الباشا من قريته ( القريّا ) إلى بيت أخيه في السويداء ، وأن يذهب ممثل الحكومة السورية القادم من دمشق للتسليم على الباشا في بيت أخيه ، ثم يأتي الإثنان معاً ( الرئيس أو من يمثله والباشا ) إلى مقر الاحتفال . لقد وقع الاختيار على محمد الزعبي ليكون ممثلاً للرئيس ( نور الدين الأتاسي ) في احتفالات الجلاء عام 1966 . لقد حضرت إلى مدينة السويداء في الوقت المحدد ، وكان بصحبتي أحد أعضاء القيادة القطرية من أبناء جبل العرب . ولما هممت بتنفيذ الإجراءات المعتادة في زيارة الباشا في بيت أخيه للتسليم عليه ومن ثم الحضور معه إلى ساحة الاحتفال ، ثارت ثائرة ( الرفيق ) عضو القيادة القطرية ، في أنه لايجوز أن نعير هؤلاء الإقطاعيين والزعماء القبليين أي اهتمام ، ومن المفروض أن يأتي وحده لحضور الاحتفال. و كانت النتيجة أن الباشا ( قائد الثورة السورية ) غاب لأول مرة عن احتفالات عيد الجلاء .
إنها واحدة من ثمار ( الصبيانية اليسارية ) المؤسفة التي لاينفع معها حتى الاعتذار.
الحادثة الرابعة :
زارني في بيتي ذات يوم عدد من مشايخ الزعبية ( كوني أنتمي إلى نفس العائلة ) وكان كبيرهم هو السيد عبد المجيد الزعبي ، ابن السيد محمد المفلح الزعبي ، زعيم عشيرة الزعبية ، والنائب في البرلمانات السورية المنتخبة . لقد كان السبب الذي أتى بهم إلى بيتي ،هو أن أمين فرع حزب البعث بدرعا آنذاك ، قد أوعز لعدد من فلاحي قرية اليادودة ( قرية محمد المفلح ) أن يستولوا على القسم من الأرض الذي تركه لمحمد المفلح قانون الإصلاح الزراعي ، بطبعته البعثية ، أي التي جعلت الحد الأعلى للملكية الزراعية 55 هكتاراً في الأراضي المروية و300 هكتار في الأراضي البعلية وكانت حجتهم المشروعة يومها ، هو قولهم لي : أنتم من حدد سقف الملكية ، وأنتم من ترك لنا هذه الهكتارات ، فلماذا أوعز( رفيقكم ) أمين فرع درعا للفلاحين بالاستيلاء على هذه الأرض . لم أكن يومها في وضع يسمح لي أن أقول لهم " إنها الصبيانيةاليسارية " المؤسفة .
وبعد استقالتي من المهام الحزبية والسياسية وعودتي إلى بيتي في درعا ، التقيت صدفة بالسيد محمد المفلح الزعبي ( أبو عبد المجيد ) في مكتب أحد المسؤولين هناك ، وبيده ( محمد المفلح ) ورقة ، قدمها لي وقال لي انظر ياأستاذ محمد ، لقد كانت ورقة تنازل الفلاحين عن الأرض التي استولوا عليها بطلب وحماية من أمين فرع الحزب بدرعا !! .
مرة أخرى: قاتل الله " التطرف "، وقاتل هذه " الصبيانية " بكل ألوانهما وأشكالهما التي فتكت وما تزال تفتك بشعبنا العربي السوري تحت العديد من الأباطيل والأكاذيب والتسميات ، والتي يمكن إحالتها دون عناء ، إلى ضعف الوازع الأخلاقي و / أو العمى الأيديولوجي ، و / أو ضحالة الثقافة السياسية ، و/ او مرض الطفولة بشقيه اليميني واليساري ، و/ أو الانحراف الوطني ، و/أو كلها مجتمعة .