الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عندما تهب الاتهامات السورية جنوبا

عندما تهب الاتهامات السورية جنوبا

24.06.2015
عيسى الشعيبي



الغد الاردنية
الثلاثاء 23/6/2015
قبل أن تهب عاصفة الاتهامات السورية جنوبا، محملة بغبار اللوم وسديم الغضب، كان التقهقر السريع في الشمال قد فعل فعله في المزاج المتكدر لشبيحة الأسد، الذين لم يعد في وسعهم تجاهل حدوث التحول الاستراتيجي في مجرى الحرب، التي انتزعت فيها قوى المقاومة والثورة زمام المبادرة العسكرية مؤخرا، وانتقل معها الثوار من مرحلة تحقيق المكاسب الموضعية، المتباعدة زمانياً ومكانياً، إلى مرحلة الهجوم الشامل والمنسق على أكثر من جبهة واحدة؛ الأمر الذي أدخل النظام المتهالك في عملية عد عكسي قد لا تكون طويلة.
وعلى نحو ما كان عليه خطاب الإنكار الذي يعيش أصحابه في عالم افتراضي منقطع عن الواقع، ظل إعلام الأسد يلقي بالمسؤولية عن الخسائر الميدانية المتراكمة لحماة الديار، على عاتق المؤامرة الكونية الشهيرة، التي يقف وراءها حلف صهويني أميركي تركي عربي، يحاول النيل من محور الممانعة، وإضعاف الموقف السوري في المواجهة "المحتدمة" مع إسرائيل، من دون أي اعتبار لوجود شعب تمردت أغلبيته المقموعة على قوانين جمهورية الصمت والخوف والخطف، ودفعت في سبيل ذلك دماً غزيراً.
في بداية مرحلة الثورة السلمية، لم يجد نظام الأسد حائطاً أضعف من لبنان، لاسيما تيار المستقبل، لتحميله وزر إشعال فتيل ثورة الكرامة والحرية. وحينما جرى الانتقال إلى مرحلة التمرد العسكري، تحت ضغط موجات القتل والترويع واستباحة الكرامات والمحرمات، راح النظام المأزوم يتطلع إلى جواره، ملقياً اللوم المبطن بالوعيد والتهديد، ذات اليمين وذات الشمال، لكل من أيدوا الثورة سياسياً وإعلامياً، قبل أن يقدموا لها دعماً مادياً يسيراً.
عندما شبت الثورة عن نطاق السيطرة، وباتت غير قابلة للاحتواء، خرج النظام المتآكل، من حيز التلميح إلى فضاء التصريح؛ فأخذ يكيل الاتهامات، وينذر بالويل والثبور، حتى إن بعض مريديه هدد بقصف أنقرة والرياض وتل أبيب بالصواريخ البالستية، وأطلق موجات متلاحقة من الهجمات الكلامية المثيرة للسخرية، الأمر الذي شكل أهم الدلالات وأشدها بلاغة، على استفحال الشعور بعمق أزمة كانت تتفاقم مع مرور الوقت، وتُخرج أربابها عن الطور.
في غضون ذلك كله، كان الأردن يقع ضمن دائرة استهداف حملة الاتهامات السورية الهائجة، إلا أنه لم يكن في موقع القلب من هذه الدائرة الواسعة. إذ ساعدت السياسات الأردنية المتوازنة، وتقديرات الموقف الصحيحة، ناهيك عن الحسابات الدقيقة التي تجلت لدى صانع القرار الأردني طوال السنوات الأربع الماضية، في كبح جماح حملة الاتهامات هذه، التي كانت كلما تجاوزت حدودها المرسومة، تعود مجدداً إلى السياق الحذر، والكلام الملغز، خشية استجرار ردود فعل الجار الجنوبي، المشهود له بالمضاء والرصانة.
غير أن سياسة الحذر والابتعاد عن الإثارة، التي اتبعها النظام الآخذ بالتفكك، حيال الأردن، بدأت في الآونة الاخيرة تتقهقر بسرعة تقهقر وحداته القتالية. فكما ألقى النظام البارع في سياسة "إعادة التجميع والانسحاب الناجحة" مسؤولية فرار ضباطه وجنوده من معارك إدلب وجسر الشغور على كاهل التدخل التركي من الشمال، راح يلقي تهمة انهيارات معسكراته في درعا والقنيطرة على عاتق التدخل الأردني من الجنوب، ويوسع دائرة الاتهامات لتشمل أميركا وإسرائيل (كذا).
على خلفية هذا السياق الطويل من الاتهامات للخارج، المسؤول حصراً عن تفاقم الأزمة، وكأن لا شيء في الداخل السوري يدعو إلى الثورة، بحسب ما يتواتر على ألسنة الناطقين باسم الأسد، وما يروج له الإعلام الممانع من تهم للأردن بالتسبب في انهيار المليشيات الطائفية، بدت معزوفة الاتهامات التي درجنا على سماعها في السابق، مجرد فزاعة لا تقدم ولا تؤخر في نهج يقوم على درء خطر التمدد الإيراني نحو الحدود الشمالية، جنباً إلى جنب مع احتواء خطر وصول "داعش" إلى الحدود الشرقية.
ومع أنه لا يحق لكاتب صحفي أن يؤول سياسة الغموض البناء لبلاده، وأن يقدم من عندياته شروحات مستفيضة لما يصدر من مواقف رسمية تتطور وفق ما تمليه التطورات المتلاحقة، بما في ذلك بيان مغزى دعم العشائر السُنّية غرب العراق وشرق سورية، إلا أن الموقف المشرف، القائم على قاعدة الدفاع الاستباقي عن الحدود المهددة بفوضى عارمة، وعلى منطق نصرة المظلوم إذا كان ذلك مستطاعاً، يقتضي ممن يقولون أن السياسة بلا أخلاق، التمعن مليا في أخلاقيات السياسة الأردنية الراهنة.