الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن الاستقامة السياسية والأخلاقية في التعاطي مع الثورة السورية

عن الاستقامة السياسية والأخلاقية في التعاطي مع الثورة السورية

02.09.2013
ماجد كيالي


المستقبل
الاحد 1/9/2013
شكّلت الثورة السورية، أكثر من أية ثورة أخرى، محطّة اختبار لاسيما للبعد الأخلاقي والإنساني، على مستوى الجماعات الأيديولوجية والسياسية والدينية والإثنية، وأيضاً على مستوى الأفراد، على امتداد البلدان العربية، بخاصة عند هؤلاء الذين يعلون الشأن الهوياتي على السياسي والمصلحي، وضمنه الشأن المتعلق بالحرية والمواطنة.
لم يكن الأمر صعباً بالنسبة لثورات تونس ومصر واليمن (وبدرجة أقل ليبيا)، إذ كان التعاطف معها، وتأييدها، محسوماً بالنسبة لدعاة اليسار والقومية والعلمانية والليبرالية والديموقراطية والمقاومة، باعتبار أن إسقاط أنظمتها جزءاً من النضال ضد الإمبريالية وإسرائيل، وعملاً من أعمال القومية العربية، ونصرة للمقاومة.
فقط مع اندلاع الثورة السورية تغيّرت هذه المعادلة، فهذه الثورة التي لم تكن متوقّعة، بدت جدّ باهظة ليس من جهة كلفتها البشرية والمادية، فقط، وإنما من جهة كلفتها المعنوية، أيضاً، إذ إنها احدثت انشقاقاً عميقاً في صفوف مؤيدي ثورات "الربيع العربي"، من يساريين وقوميين ومقاومين وديموقراطيين، وحتى من علمانيين وليبراليين، بعد أن بدا أن ثمة من بين هؤلاء من يعترض على مشروعية هذه الثورة، بدعوى أن النظام علماني، ومعاد للإمبريالية، ومحسوب على محور المقاومة والممانعة!
المشكلة أن الاعتراض على هذه الثورة لم يتوقّف عند معناها السياسي المتعلق بإنكار حق السوريين في الطلب على الحرية والكرامة، أو اعتبارها مجرد مؤامرة، وحسب، بل وصل حد تأييد النظام في محاولاته مواجهتهم بالرصاص، وبقذائف الطائرات والدبابات والمدفعية، ناهيك عن التنكّر لمعاناتهم وعذاباتهم، جراء التقتيل والتدمير والتشريد الذي تعرضوا له، والمجازر الوحشية التي نفّذت ضدهم.
بالنتيجة فقد كشفت الثورة السورية ليس فقط خواء ادعاءات هؤلاء، وتماهيهم مع الاستبداد، واختزالهم سوريا وشعبها بعبارة : "سوريا الأسد"، وإنما هي بينت، أيضاً، عدم استقامتهم من الناحيتين الفكرية والأخلاقية.
هكذا كشفت ثورة السوريين المعقدة والصعبة والمكلفة خواء الفكرة "القومية"، القائمة على التعصّب والانغلاق والاستبداد، والتي تفضي ليس فقط إلى نبذ وتهميش الآخر، المتمثل بالقوميات والأقليات الاثنية الأخرى، وإنما إلى صدّ فكرة المواطنة القائمة على المواطنين الأفراد الأحرار والمتساوين، أيضاً، مع اختزالها مفهوم الوطنية بمجرد الولاء للسلطة، أو للطغمة الحاكمة، التي تحتكر تعريف الوطنية والوطن في ذاتها.
أيضاً، كشفت ثورة السوريين الطريقة الاستخدامية لقضية فلسطين، التي تنتهجها إيران، وتابعها وحزب الله، والذين باتوا عاملا من عوامل تسعير النعرة المذهبية، بين السنّة والشيعة، في المشرق العربي، فضلا عن مشاركتهم في قتال السوريين دفاعا عن نظام الأسد "العلماني" و"المقاوم"، علماً أن إيران ذاتها هي دولة استبداد ديني، ودولة تسلطية إزاء شعبها، مثلها مثل الأنظمة التي قامت ضدها ثورات "الربيع العربي".
من المثير، أيضاً، ملاحظة أن الثورة السورية غيّرت من إدراكات السوريين للعالم، فبعد ان كانت روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي، تظهر كصديقة للعرب، وكداعمة لكفاحهم التحرري، على امتداد عشرة عقود، إذا بها تظهر باعتبارها عدوة للسوريين، ولطموحاتهم بالتغيير الديموقراطي، وباعتبارها دولة تسلطية أخرى، تمارس سياسات امبراطورية، وتقمع الجماعات والمكونات القومية والاثنية والدينية فيها، وتبتز مكانة دولية لو على حساب الشعوب وقضاياها. وبالمحصلة، فإن سياسات "القيصر" بوتين قلبت ادراكات السوريين من صداقة روسيا الى العداء معها، ومن معاداة الولايات المتحدة والغرب عموما الى نظرة تعتبر الغرب اكثر قربا للسوريين.
ولعل أهم ما كشفته هذه الثورة هو حقيقة النظام ذاته، الذي صدم السوريين (والعالم)، بالتصرف إزاءهم كأنه غريب عنهم، إن بعدم اعترافه بهم كشعب له حقوق، أو باستخدامه الطائرات والدبابات والمدفعية في قمع ثورتهم، كأنه يعرّف ذاته بمثاب قوة احتلال خارجي، تفرض ذاتها بالقوة الغاشمة.
الآن، وبعد 30 شهراً على عذابات السوريين، ومصرع نحو 150 الفا، واعتقال عشرات الألوف، وتشريد الملايين، وخراب عمران مدن عديدة، يبدو أن لحظة الحقيقة أزفّت، بعد أن بلغ المجتمع الدولي عتبة التدخل، لاسيما إثر استخدام النظام للسلاح الكيميائي، المحظور دوليا في الحروب، فما بالك باستخدامه ضد شعبه.
اللافت أن هؤلاء الذين أنكروا حق السوريين بالحرية، وبالتخلص من الاستبداد، وتنكّروا لمعاناتهم وعذاباتهم، طوال 30 شهراً، إذا بهم اليوم يحملون الضحايا مسؤولية التدخّل الدولي، كأن هؤلاء لا يكفيهم ما حل بهم من مآس، أو كأن الدول الكبرى، التي وقفت تتفرج على ما يحل بهم من كوارث، تستمع لهم.
وفي كل الأحوال، فإن هؤلاء الذين يريدون للضحية ان تموت بصمت، من دون حتى أن تصرخ، أو تبدي أي ألم، يتوخّون تحويل المجرم أو الجلاد او الطاغية إلى ضحية، بدعوى الغيرة الوطنية والقومية. المشكلة أن هؤلاء ينسون أن هذا النظام هو الذي همّش شعبه، وهو الذي حول البلد إلى ساحة للتدخلات والصراعات الاقليمية والدولية، وأن هذا النظام بالذات كان "تدخّل" في لبنان، أواسط السبعينات، لكسر الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وأنه في 1991 شارك في حفر الباطن ضد العراق، وأنه شارك في فرض الحصار على العراقيين 13 عاما، أي أنه في سياساته الإقليمية شرّع للتدخل الخارجي. وفوق ذلك فهؤلاء ينسون، أيضاً، أن إيران التي تقاتل السوريين، مباشرة، او عبر امتداداتها (حزب الله في لبنان ولواء أبو الفضل العباس في العراق) سبق أن تواطأت مع الولايات المتحدة الأميركية في غزوها لأفغانستان والعراق (2002و2003)، وأن الميليشيات العراقية التي تدعمها دخلت العراق على ظهر دبابة اميركية، وشاركت في الحكم تحت سلطة بريمر.
قصارى القول، ففي المأساة السورية، لكي يكون لأحدنا القوّة والشرعية والحق الأخلاقي للطلب من السوريين الرضى بالعذابات والأهوال، ورفض اي تدخل خارجي يجنّبهم كل ذلك، ينبغي أن يكون معهم، وأن يعاني مثلهم، أقله، ينبغي ان يكون اختبر ولو واحد بالمئة فقط مما اختبروه في العامين الماضيين. فضلا عن ذلك فإن النظام هو الذي يتحمل المسؤولية عن كل ما يجري وسيجري في سوريا، بتدخّل خارجي أو من دونه.