الرئيسة \  تقارير  \  عن التحوّل السوري إلى دولة مدنية

عن التحوّل السوري إلى دولة مدنية

24.12.2024
سميرة المسالمة



عن التحوّل السوري إلى دولة مدنية
سميرة المسالمة
العربي الجديد
الاثنين 23/12/2024
بعد سنوات طويلة من النضال والمعاناة، شهد السوريون حدثاً تاريخياً مع سقوط النظام السابق وهروب بشّار الأسد، وتسلّم هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) زمام الحكم الانتقالي. يمثّل هذا النصر، الذي تحقّق بعد تضحيات هائلة، بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ يتطلّع فيها الشعب السوري إلى تحقيق حلمه في بناء دولة مدنية حديثة قائمة على العدالة والمساواة. لكنّ هذه اللحظة المفصلية تحمل تحدّيات كبيرة، أبرزها الخروج من العقلية الفصائلية والحكم العسكري إلى إدارة مدنية شاملة، تستجيب لتطلّعات جميع السوريين.
منذ اللحظة الأولى لتولّي هيئة تحرير الشام السلطة، برزت تساؤلاتٌ بشأن آلية إدارة المرحلة الانتقالية، إذ تُظهِر المعطيات الحالية أن المناصب الحكومية تُمنح بشكل رئيس للمقرّبين من قيادة الهيئة، وهو مشروع راهناً، بحكم الظرف الطارئ، ولعدم معرفة المعنيين بالكفاءات السورية التي يمكن الاعتماد عليها من خارج دائرتهم الضيّقة، إلّا أن ذلك أيضاً يثير مخاوفَ مشروعةً من أن تُعيد هذه السياسة إنتاج نموذج النظام السابق، حين كانت السلطة بمراكزها العُليا والمؤثّرة في أغلب الأحيان مخصّصةً للموالين للأسد (الأب والابن) أو أقربائهم. السوريون لم يضحّوا من أجل استبدال نظام استبدادي بآخر، بل ناضلوا من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، وتوزيع المناصب على أساس الولاء الشخصي أو العسكري يُنظر إليه من كثيرين على أنه يحوّل المناصب "غنائمَ حربٍ"، بدلاً من أن تكون مسؤولياتٍ وطنيةً تُمنح بناءً على الكفاءة والخبرة. هذه السياسة لا تؤدّي إلى تآكل الثقة الشعبية بالقيادة الجديدة فقط، بل تُكرِّس أيضاً الانقسام المجتمعي وتُضعف فرصَ بناء دولة مدنية قوية.
يطلب من القيادة الجديدة تبنّي نهج شفّاف في إدارة الشؤون العامّة، فتكون المناصب أداةً لخدمة المواطنين، لا وسيلةً لتعزيز الولاءات
يحتاج الشعب السوري، الذي عانى عقوداً من الاستبداد، إلى رؤية وطنية جامعة تُعبّر عن تطلّعاته في بناء دولة حديثة تتجاوز منطق المحاصصة على أساس طائفي أو حزبي أو مناطقي أو عائلي، ويتطلّب ذلك من القيادة الجديدة تبنّي نهج شفّاف في إدارة الشؤون العامّة، فتكون المناصب أداةً لخدمة المواطنين، لا وسيلةً لتعزيز الولاءات الشخصية أو الفصائلية. التحدّي الأكبر الذي يواجه هيئة تحرير الشام، القدرة على التحوّل من فصيل مسلّح إلى كيان سياسي مدني يقود البلاد نحو الاستقرار. لتحقيق ذلك، يجب أن تبدأ القيادة بإنشاء مؤسّسات حكومية قائمة على الكفاءة، مع إرساء مبادئ الشفافية والمساءلة. هذا التحوّل غير ممكن من دون إشراك جميع مكوّنات المجتمع السوري في صياغة مستقبل البلاد.
إحدى الخطوات الضرورية في هذا السياق، صياغة دستور جديد يُعبّر عن تطلّعات السوريين، ويضمن فصل السلطات واستقلال القضاء، ويضع حدّاً لأيّ محاولات لاحتكار السلطة، فالدستور يجب أن يكون مبنياً على مبادئ الحرّية والمساواة والعدالة، قيماً دستوريةً عُليا، وأن يضمن حقوق جميع المواطنين من دون تمييز. إلى جانب ذلك، تحتاج سورية إلى إطلاق عملية مصالحة وطنية حقيقية تُعالج الجراح التي خلّفتها سنوات الحرب، أي إن العدالة الانتقالية لا بدّ أن تكون جزءاً أساسياً من هذه العملية، بحيث يُحاسَب المسؤولون الأساسيون عن الجرائم، ويُمنح الضحايا حقوقهم، ويعمل على إعادة بناء الثقة بين مختلف مكوّنات المجتمع.
التحوّل إلى دولة مدنية يتطلّب أيضاً دعماً دولياً وإقليمياً متوازناً، وهو ما يضع أمام القيادة الجديدة مسؤوليةَ الالتزام الواضح بتحقيق حلمهم ببناء دولة مدنية حديثة، لا عسكرية ولا دينية ولا طائفية ولا ديكتاتورية، قائمة على الحرّية والعدالة والمساواة للمواطنين كلّهم من دون أيّ تمييز، ما يُعزّز فرصَ الحصول على دعم المجتمع الدولي لإعادة إعمار البلاد بأسرع وقت ممكن لتأمين استقرارها، وتنميتها الاقتصادية المعوّل عليها في استعادة سورية دورها العربي والإقليمي والدولي.
التحوّل إلى دولة مدنية في سورية هو ضرورة حتمية لتحقيق تطلّعات الشعب في الحرّية والكرامة والعدالة
رغم التحديات كلّها، الفرصة سانحة أمام القيادة الجديدة لتحقيق نقلة نوعية في تاريخ سورية، فالشعب السوري يتطلّع إلى قيادة تشاركه الحلم، وتُعيد له الأمل في مستقبل أفضل. والشرع بخطاباته الموجّهة إلى الداخل والخارج، يُعبِّر عن معرفةٍ حقيقيةٍ بأن النصر العسكري ليس سوى البداية، وأن النجاح الحقيقي يكمن في بناء دولة مدنية حديثة تُحقّق تطلّعات الشعب، وتُعيد إلى سورية مكانتها، إلّا أن هذا التوجّه، في ظلّ الخراب الذي تركه النظام الساقط، سيبقى متعثّراً ما لم يفسح المجال للقوى السياسية كلّها، ومنها القوة النسائية، للمشاركة في تحمّل مسؤولية إزالة ردم الفساد السلطوي، وإعادة بناء منظومة حكم تحقّق طموحات السوريين، وتؤسّس جمهوريةً ثالثةً تحكمها إرادة المواطنين الأحرار المتساوين.
ليس التحوّل إلى دولة مدنية في سورية مُجرَّد خيار، بل هو ضرورة حتمية لتحقيق تطلّعات الشعب في الحرّية والكرامة والعدالة. التحدّيات التي تواجه القيادة الجديدة هائلة، لكنّها ليست مستحيلةً إذا توافرت الإرادة الحقيقية، والنهج الشفّاف، الذي يضع مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار، فالتاريخ لا يرحم أولئك الذين يفرّطون بفرص التغيير، والشعب الذي صمد في وجه الاستبداد لن يقبل بأقلّ من دولة تحترم حقوقه وتصون كرامته.
اليوم، تقع المسؤولية على عاتق الجميع، قيادةً وشعباً، للمضيّ في بناء سورية الجديدة، سورية التي تتّسع لجميع أبنائها، وتكون نموذجاً للعدالة والمساواة في المنطقة. النجاح في هذه المهمّة لن يكون مُجرَّد انتصار لسورية، بل سيكون رسالةَ أملٍ لكلّ الشعوب التوّاقة إلى الحرّية.