الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن العشريات السورية في موسمها 

عن العشريات السورية في موسمها 

10.12.2020
موفق نيربية



القدس العربي 
الاربعاء 9/12/2020 
تحضر إلى الذاكرة مؤخراً، من دون مناسبة، نظرية كارل ماركس حول الأزمة الرأسمالية، حين يتناوب الازدهار والجمود على اقتصادها، والتضخّم والركود، كلّ عشر سنوات تقريباً.. ومع إهمال ذلك التنبّؤ المحدود الذي يخص ذلك المجال لموجة تحوّلات مسار الرأسمالية، لم يكن في العقود الأخيرة ألّا يجري استحضار منهج ماركس في تحليل الاقتصاد، حتّى لدى عتاة الرأسمالية. 
وحضور تلك المقولة لا يعني بالضرورة تجسّدها في أحوالنا أبداً، لكنها مجرّد خاطرة في زمان الرماد، يمكن رميها جانباً على الفور، مع الإشارة إلى أن ما مرّ بنا في سوريا، يكاد ينقسم أيضاً إلى عشريات على الطريقة ذاتها، من دون اقتصاد رأسمالي حقيقي، ولا أزمات تشابه تلك الأزمات المشار إليها. 
في البدء تأسست سوريا الحديثة في عام 1920، من دون بنية متكاملة، ثم تمّ وضع مشروع دستور جمهوري في 1928، لم يُعتمد من قبل القوة المنتدبة – إلا بعد إضافة مادة في نهايته – عام 1930، في التاريخ الذي كان البعض يرى فيه بداية "الجمهورية الأولى". وفي عام 1941 اعتُمد مبدأ استقلال سوريا للمرة الأولى، والسير باتّجاه أوّل انتخابات ديمقراطية، فازت فيها الكتلة الوطنية فوزاِ كاسحاً في عام 1943. ورغم انقلابات 1949 العسكرية، لم يغب نفوذ الديمقراطية على الإطلاق، وتمّ وضع أوّل دستور حديث وديمقراطي عام 1950، كان من الناحية النظرية تأسيساً لانقلاب 1954 الديمقراطي تماماً. وانطلقت الحريّات إلى مداها بعد ذلك، ليكون الاستقلال ضحيّتها لمصلحة الوحدة مع مصر، التّي طالبت بها الملايين في الشوارع. وفي عام 1960 وصل المشروع إلى مداه في الفشل، وتهيأ السوريون للانفصال عن الوحدة كما حدثت فعلياً، من دون تراجع عن الإيمان بها. وذلك كان تحضيراً مثالياً لانقلاب الضباط البعثيين في مارس 1963.. حتى استقرّ الأمر على انقلاب حافظ الأسد – الحركة التصحيحية – في عام 1970، الذي وقعت السلطة في يديه آنذاك ثمرة ناضجة لا يصارعه أحدٌ عليها. 
واجتمع لحافظ الأسد آنذاك جيش قوي وحديث، بناه السوفييت لإزالة آثار عدوان إسرائيل 1967، وأراد له الأسد وظيفة أخرى. كما كان قد ابتدأ ببناء منظومة أمنية مركّبة ممسوكة بشكلٍ مركزي حازم.. كما استفاد من انعزالية رفاقه، الذين انقلب عليهم، وطهرانيتهم ليجمع حوله الطبقات والطوائف والقوميات، ومعظم القوى السياسية الموجودة آنذاك، ووقفت الجماهير معه، بشكلٍ يذكّر نسبياً بالجماهير الغفيرة التي أسست الوحدة مع عبد الناصر. وبعد ذلك انهمرت المكافآت عليه من الخليج، واستطاع غزو لبنان برضا العرب وإسرائيل وكثير من اللبنانيين أنفسهم.. فابتدأ حظه بالتغيّر رويداً رويداً. حتى جاء وقت العشرية التالية. 
انتفضت النقابات المهنية وما بقي من القوى الديمقراطية في عام 1980، وبدا وكأن الأسد يفقد قوته أمام الإضرابات، واجتماع الناس ضد سياساته الاستبدادية والطائفية.. عندئذٍ ظهرت الخطة "ب" القائمة أساساً ولم يدر بها أحد تقريباً.. وتقضي تلك الخطة بالانقضاض من دون أية رحمة، أو تحفّظ على من يقف في وجه النظام، ومن لا يقف أيضاً. فاستغلّ هجمات الإسلاميين الجهاديين المتطرفة، ونفّذ بالسجناء العزّل في سجن تدمر مجزرة هائلة في يونيو 1980؛ ثمّ دفع بهم إلي الزاوية في حماة، وانقضّ عليهم وعلى المدينة بكامل ثقله، في مجزرة كانت ضحاياها عشرات الآلاف، لم يفق منها السوريون إلّا بعد ثلاثين عاماً تقريباً. 
 
بانتهاء العشرية الأخيرة، ومرور سنوات عشر على الثورة بعد أشهر قليلة، يتساءل المرء عن إمكانية العودة والنهوض 
 
في العشرية التالية، سنحت للأسد فرصة جديدة نادرة للخروج من مأزقه، حين اجتاح صدام حسين الكويت، واجتمع العالم لتحريرها بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وانضم إليهم الديكتاتور السوري باستعراض شكلي كبير. وكان قد ابتدأ التفكير بخلافته، ويريد اقتناص أية سانحة لتحضير خليفته الذي كان آنذاك ابنه باسل. فقام ببعض الانفتاح، والإفراج عن جزء من السجناء السياسيين، وحاول قوننة الفساد عن طريق نسيبه الجبار محمد مخلوف.. وأصبح ضباط الأمن أكثر لطفاً من السابق، خصوصاً بعد موت ابنه باسل، وظهور طموحه لتولية ابنه بشار بعده، ذلك الولد الضعيف عديم الكفاءة، الذي يحتاج إلى أكثر مما كان أخوه يحتاج من العوامل المساعدة، ومنها ضمان الورقة اللبنانية في يديه، واسترضاء قطاعات أكبر من الناس. 
مات الأسد الكبير، وجاء بعده الصغير بلعبة فاجرة مكشوفة.. وقام هذا بتقديم وعود ومواثيق للناس في خطابه المباشر، بعد انتخابه ووقت تنصيبه، في ما عُرف لاحقاً باسم "خطاب القسم". وفيه، لم يتحدّث عن التطوير والتحديث في الحقل الاقتصادي وحده، بل أيضاً عن الرأي الآخر، وضرورة احترامه وتقديره، وكانت مثل تلك المفاهيم سابقاً كفراً بالاستبداد وشرعيته.. فأقدم الناس، تقودهم نخبهم المثقفة والسياسية، على "ربيع دمشق" وعاشوا الحلم لعام أو يزيد. فظهرت البيانات التاريخية مثل بيان 99، ثم بيان الألف، وتأسست المنتديات الديمقراطية، ولجان إحياء المجتمع المدني، حتى انقضاض الأسد الصغير على ذلك الربيع في سبتمبر 2001، وازدياد شوقه لأبيه. في منتصف تلك العشرية اغتال النظام وحزب الله ـ أيهما؟ لا يهم ـ رفيق الحريري، وتأسس أوسع ائتلاف معارض في تاريخ سوريا في "إعلان دمشق" ضدّ النظام، ومن أجل التغيير الديمقراطي. وفي نهايتها، وبعد أن كاد الظلام يخيّم وينتصر، ابتدأ الربيع العربي من تونس مع نهايات عام 2010 ثم في مصر في ثورة 25 يناير.. وليبيا واليمن. فكانت الثورة السورية، الخيال البعيد المنال، وكان الحراك الأعظم في تاريخ سوريا الحديث ابتداءً من 15 ـ 18 مارس 2011. 
ليس من السهل على غير السوريين أن يتخيّلوا ما حدث لهم في ذلك العام، حين انطلقوا إلى الشوارع وامتلكوها بسرعة وتدرّج، وحشدوا في ما بعد مئات الألوف من المتظاهرين المسالمين، ابتداءً من حماة ذاتها، المكلومة الجريحة التي كان النظام يأمل بأن تعود إليه بالسلاح، تطلب الانتقام والثأر لضحاياها.. وعاش الناس عاماً ـ وربّما عامين – من الفرحة الكبرى، التي لا تطفئها حتى جراحها، وهي تموت أمام نيران الديكتاتور وجيشه وأجهزة أمنه العملاقة. عجزت المعارضة التقليدية عن تأمين قيادة سياسية متماسكة للانتفاضة، وعجزت طلائع شباب الثورة عن التطوّر وتأسيس مثل تلك القيادة أيضاً. فتأرجح الدعم الخارجي بين الغلوّ في الدعم والتأييد من جهة، والتمسّك بالأسد بين اليدين، من دون المغامرة بتغيير لا يوجد بديل مقنع له.. ذلك ما كان، وليس ما ينبغي أن يكون. فكان من الطبيعي أن يستولد القمع وسفك دماء السوريين المسالمين مقاومة مسلحة في البداية، ثمّ يستدعي أشباح أولئك "المجاهدين" من مكامنهم في الداخل والخارج، وتنشأ حالة قتال أقرب إلى الحرب الأهلية منها إلى الثورة، وحالتين "جهاديتين" عادت إحداهما – نظرياً- من أفغانستان طلبا للثأر و"إعلاء كلمة الله" وجاءت الأخرى من إيران، لتثأر لزينب التي لم يسبها السوريون. 
أصبحت سوريا ثلاثة أقسام من حيث المبدأ، وأكثر من ذلك عملياً وعلى الأرض، وغادر نصف أهلها منازلهم إلى غير أرض وغير بلاد، بعد أن راح منهم مليون شهيد، ومثلهم من ضحايا الحرب. وتناهشت الأطراف المحيطة والخارجية ما بقي من أجسام المعارضة.. وغطّت شظايا سوريا وجه الأرض بعد انفجارها، بفعل سلطة الاستبداد وسيدها أولاً، واتّضاح خطتها الدائمة باستهداف الشعب من دون أي رادع، ولتذهب البلاد إلى الجحيم.. 
وبانتهاء العشرية الأخيرة، ومرور سنوات عشر على الثورة بعد أشهر قليلة، يتساءل المرء عن إمكانية العودة والنهوض، في زمن ترامب وطغيان الشعبوية، وهروب العديد من العرب من إيران إلى الإسرائيليين.. ولا يجد إجابات إلّا في محاولات متكررة جوفاء هنا وهناك، تقرع أواني الطبخ، ولا تشبع إلّا خيالات أصحابها.. رغم ذلك، واحتفاظاً بأيام خالدة.. لن نحتفل بقدرتنا على الأمل كما اعتدنا، ولكننا سنترك الباب مفتوحاً، رغم البرد القارس! 
كاتب سوري