الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن الهزائم المظفّرة في سورية

عن الهزائم المظفّرة في سورية

29.08.2016
محمد هاني


الحياة
الاحد 28/8/2016
لمناسبة بدء العملية العسكرية التركية في سورية، استُدعيت من دفاتر التاريخ معركة "مرج دابق" التي تزامنت ذكراها الخمسمئة مع انطلاق التوغل. وتوخّت الاستدعاءات هدفين متقابلين، فإما التحذير من هجمة تركية تقضم من الأرض العربية، أو التبشير بتحرك قواتها لنصرة المعارضة.
بيد أن الإسقاطات التاريخية، على غوايتها المفهومة، تُغفِل تبدّل الزمن واللاعبين ومواقعهم وقدراتهم. ولئن كانت "مرج دابق" مفتتحاً آنذاك لسيطرة إمبراطورية العثمانيين الفتيّة على سورية، ثم مد نفوذها جنوباً إلى مصر، فإن "درع الفرات" تبدو خاتمة لرهان رافق بدايات الانتفاضات العربية على تمدد "العثمانيين الجدد" الذين باتوا مُثخنين بفعل سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتبعات الانقلاب الفاشل.
خلْف عنواني مواجهة "داعش" و "صون وحدة الأراضي السورية" اللذين رفعهما التدخل التركي، يكمن قلق عميق لا يخفى على أحد من التوسع الكردي غرب نهر الفرات، ضمن "قوات سورية الديموقراطية" التي ركز عليها أمس قصف الطيران التركي، وقبله المدفعية، بعد إزاحة سريعة غير مكلفة لـ "داعش" من جرابلس.
لا يصلح القلق وحده قاطرة لمشاريع التوسع، كما لا يسمح بقلب دراماتيكي للتوازنات الهشة التي خلقته، خصوصاً في ظل التفاهمات التي سبقت التدخل مع موسكو وطهران. وعوضاً عن مد النفوذ، تبدو غاية أمل التدخل الجديد وقف تطويق "وحدات حماية الشعب" قطاعاً حيوياً من حدود تركيا مع سورية بشريط كردي يصل بين عين العرب وعفرين.
وفي هذا السياق، يتكاثر الحديث عن خطوط مفتوحة بين أنقرة ودمشق وكذلك التوقعات بإحياء اتفاق أضنة بينهما ضد "حزب العمال الكردستاني"، بعدما أعيد تنشيطه على الأرض عملياً في الحسكة وفي محيط جرابلس، فيما تشكو قيادة المعارضة السورية المشاركة قواتها في "درع الفرات" من أن تركيا لا تضعها في صورة الهدف الأكبر من العملية.
تقلصت أحلام التمدد الكبيرة لدى "العثمانيين الجدد" من تشكيل سورية جديدة على صورة خيالاتهم الإقليمية، إلى وقف تمدد في الاتجاه المعاكس للحرب السورية إلى الداخل التركي، لن يكون تفجير غازي عنتاب الذي ذكره أردوغان ضمن مبررات التوغل، آخر أماراته. وبهذا المعنى، تبدو المكاسب الميدانية التي تحققها العملية أشبه بهزيمة مظفّرة.
لا يمكن أيضاً أن يتبجح الرئيس السوري بشار الأسد بانتصار. صحيح أنه اشترى الكثير من الوقت عبر الرهان على العزوف الأميركي عن التدخل في المنطقة، ولعب على التوازنات الإقليمية التي يجيد قراءتها. كما خدمته التطورات التي شغلت الخصم التركي عنه بأزماته الداخلية، وفتحت باب القبول بدور "انتقالي" له في مستقبل سورية. لكن المحصلة أن مصيره بات بيد الكرملين ومن بعده "الحرس الثوري" الذي يقود جنرالاته المعركة على أرض مدمرة تشرد نصف شعبها. أي انتصار هذا الذي يأتي به حصار إجرامي لداريا استمر أربع سنوات، لترتيب الأوضاع على بعد بضعة كيلومترات من قصره؟ إنها هزيمة مظفرة أخرى.
خسر العرب كذلك حين تخلوا لتركيا عن إدارة الأزمة في سورية. وهو ما ستتضح فداحته مع تباعد الأولويات وتزايد تنسيق أنقرة وموسكو، وصولاً إلى الاحتكار التركي المتوقع لتمثيل المعارضة على مائدة التسوية، بقوة الوجود الميداني.
وقد تكون إيران ثبتت الأسد، لكنها اضطرت إلى تسليم قيادة معسكره إلى موسكو. وفتحت للطائرات الروسية أراضيها لقصف سورية، ما قوبل بغضب في طهران. وحتى موسكو ليست أفضل حالاً، وإن بدت موقتاً أكبر الرابحين، فلا يعقل ألا يعتريها قلق كبير من فواتير الإقامة الطويلة التي تستعد لها في حميميم، وهي تتفاوض مع واشنطن على وراثة المنطقة.
لا منتصرين في سورية هذا الأسبوع. فقط أطراف مُثخنة تحصي هزائم مظفرة.