الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عيد في الشتات السوري

عيد في الشتات السوري

09.08.2013
د. رياض نعسان أغا

الاتحاد
الجمعة 9/8/2013
ها هو ذا خامس عيد يمر على السوريين وهم في الشتات الذي لم يعد أحد منهم يعرف له نهاية أو خاتمة، حتى بتنا نخشى أن يكون مصير اللاجئين السوريين أقسى مما عانى اللاجئون الفلسطينيون على مدى أكثر من سبعة وستين عاماً، وقد كان عدد من تشردوا منهم عام 1948 نحو سبعمائة ألف، بينما عدد من تشرد من السوريين يزيد على أربعة ملايين، والمسجلون منهم لدى المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين نحو مليون وربع مليون لاجئ، فأما الآخرون فلم يسجلوا أنفسهم لاجئين، لأنهم ظنوا أنها هجرة مؤقتة لا تتجاوز أياماً أو أسابيع، لكنها بدأت تعد بالسنوات.
وقد بات مخيفاً أن نجد القرار الرسمي السوري قد أحيل إلى إيران وروسيا بشكل كامل، وأن يكون قرار المعارضة قد أحيل إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وقد بات السوريون يترقبون ما يصدر عن اجتماعات كيري ولافرورف وفي ذاكرتهم اجتماعات «سايكس» و«بيكو» التي قسمت سوريا الكبرى إلى دول، ورسمت خريطة جديدة لبلاد الشام والعراق. والمفجع أكثر هو غياب أي مشروع عربي للحل، فمن الواضح أنه لا يوجد لدى الجامعة العربية أي تصور لمستقبل سوريا، وقد أعلن عامة العرب عجزهم منذ أن تمت إحالة الملف إلى مجلس الأمن الذي انقسم ظاهرياً لكنه اتفق ضمنياً على إطالة أمد الحالة الدموية، واكتشف السوريون جميعاً (مؤيدي النظام ومعارضيه) أن المجتمع الدولي غير معني بإنقاذ سوريا من طوفان الدم ومن مستنقع الخراب، وأنه اكتفى بتقديم معونات إغاثية، وأن عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات علاجية صارمة كان متفقاً عليه، ولا يشكل حالة خلاف حقيقي بين الدول الكبرى. وتكشف ذلك تناقضات التصريحات المتتالية التي يطلقها وزراء خارجية دول كبرى، فبعضهم يلهو بالوقت، وآخر يصرح بشيء ثم يتراجع عنه سريعاً فيفضح حالة التخبط، وربما في أحسن الأحوال يكشف حالة ضبابية حتى على الصعيد الدولي. فقد خشي بعض قادة العالم الكبار من انتصار الثورة السورية، وخافوا أن يصل إلى سدة الحكم رجال وطنيون جادون في معاداة إسرائيل يطالبون بتحرير الجولان. وبالطبع فإن بعض قادة العالم لا شغل لهم سوى الحفاظ على أمن إسرائيل، ولا يعنيهم أن تمحى سوريا من الخريطة الجغرافية وأن يباد شعبها كله، بل إن فيهم من يسعده أن يرى العرب جميعاً خارج التاريخ والجغرافيا، وأن تصبح إسرائيل واحة نضرة وسط صحراء مجدبة، والدولة الديمقراطية المدنية المتحضرة الوحيدة في محيطها، ولا بأس في أن يعيش على أطراف حدودها غير المعلنة عرب متخلّفون منشغلون بسفك الدماء وبتدمير بعضهم البعض، وهي تزودهم بالسلاح، وتضمن عداء العالم كله لهم، لما قد يظهر فيهم من أفكار بالية وأنماط حكم هزلية... وإن حدث مثل هذا لا قدّر الله، فسوف يكون «الربيع العربي» قد صار جحيماً، يندم بعده العرب على ما فقدوا من أمن واستقرار في دول الديكتاتوريات البائدة.
ومن المفجع أن تكون الثورة السورية التي أظهرت عظمة ما لدى السوريين من بطولات وقدرات معجزة في تحمل التضحيات الجسام والصبر على البلاء الأعظم، قد أظهرت كذلك من الرداءة والهشاشة ما تشمئز منه النفوس، فعلى ضفاف الثورة وشواطئها ظهر الباحثون عن الثروات وعن السلطة والمستعدون لقتل أهلهم وتدميرهم، ومن تحولوا إلى مجرمين ولصوص وقطاعي طرق، وهذا ما جعل الناس يخشون أن تنهار سوريا وتسقط فيها الدولة والمجتمع معاً، وقد تشظى النسيج الوطني وباتت الشروخ النفسية والصراعات المذهبية مقتل السوريين الذي كنا نتباهى بوحدتهم الوطنية وعيشهم المشترك ونغني لما بينهم من محبة حين لم يتحمل قادتهم مطالب مشروعة بالحق في الحرية والكرامة.
والمؤلم أنني لا أجد وسط هذه الرؤية الضبابية ضوءاً في آخر النفق، ولا أريد أن ييأس السوريون، لكني لا أريد أن يخدعهم أحد، فقد بات من العسير الاطمئنان إلى حسم عسكري قد يفضي إلى تدمير شامل لسوريا وإلى تقسيم قسري عبر قرارات دولية تجد في التقسيم حلاً وحيداً. ويبدو أن هناك سعياً خفياً دؤوباً لجعل التقسيم مخرجاً، ومن ملامحه تشجيع النظام لبعض الأكراد لإقامة حكم ذاتي على طريق الانفصال، وعلى الضفة الأخرى تشجيع خفي لحديث عن دولة الشام والعراق، وبعض السوريين في حواراتهم الهامسة يتخوفون من أن يحشر أهل السنّة بين البادية والجبل، يحاصرهم الفقر والجدب ويسمح للمتطرفين أن يقيموا في الشمال إمارة دينية على غرار دولة «طالبان» التي شجعها الأميركيون قبل أن يحاربوها، وأن يقيموا دولة مماثلة أخرى في الجنوب، تفصل بينهما حدود الدولة العلوية التي يشيع المرجفون أنها قد تمتد من الساحل كله إلى البادية، وعبر اتفاقات محتملة مع دولة الأكراد يمكن أن تضمن دولة العلويين النفط، وأن تضمن دولة الأكراد البحر والمصافي. هذا الحديث المرجف قد يبدو نوعاً من التخيل الساخر مما تمضي إليه أحلام بعضهم، لكنه مرشح لأن يصير حقيقة لأنه سبق أن صار لخمس سنين زمن الانتداب الفرنسي، وقسمت سوريا إلى خمس دول. ولئن كان السوريون رفضوا التقسيم يومذاك لأن العدو خارجي، فإن الخطر أن نجد من يتحمس له من أجل مصالحه الفئوية، وبحجة الحماية من خطر الأكثرية التي ستكون الخاسر الأكبر.
إنني أدرك أن مثل هذا السيناريو المتخيل سيبقى وهماً، لكن السوريين خائفون حقاً من أن يسعى المجتمع الدولي إلى حلول سياسية يتم فيها حل عقد الدولة والمجتمع.
وخشية من الوقوع في أسوأ الضررين، أناشد السوريين جميعاً أن يقفوا وقفة جادة لرؤية مستقبلهم، ولابد من تقديم التنازلات على الجانبين، فإن ظن النظام أنه قادر على الحسم العسكري، فهو يطمح إلى حكم جمهورية الموتى والجثث، لأنه لن يطمئن إلى سلطته دون أن يقيم محاكم التفتيش التي تبيد وتعدم كل من خرج عن إمرته، وإن ظنت المعارضة بجناحيها العسكري والسياسي أن الحسم بالقوة قادم، فإنني أخاف أن يتم تدمير ما تبقّى من سوريا ثم لا نجد إلا الأرض اليباب ولا نريد أن نصل إلى يوم نسمع فيه بعد ذلك من يقول «لابد من التقسيم»، ولا تزال بيد النظام والمعارضة فرصة إنقاذ أخيرة، قبل أن نذهب جميعاً إلى الجحيم.