الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قبل أن يذهب كلّ أبنائنا إلى الموت

قبل أن يذهب كلّ أبنائنا إلى الموت

10.02.2014
غازي دحمان


المستقبل
9/2/2014
على وقع الفشل المدوي لجولة مفاوضات جنيف، وأخبار الموت المتنقلة من بغداد إلى حلب فبيروت، بات يتضح جلياً أن الأزمة تخطت عتبة المنطق السياسي بخلافاته وإشكالاته المعروفة، إلى حالة الصراع العدمي، الحالة التي تفتقد للأفق الواضح، حيث لا لغة سياسية يمكن ان تحتويها، ولا عملية سياسية تضمن ضبطها وإداراتها.
هو العبث بذاته يسرح ويمرح في جغرافية المنطقة، ويقرر مصائر سكانها، وشكل موتهم القادم، ويدفعهم إلى جبهات قتال بعينها. هو العبث بعد أن أفسحنا له المكان وهيّأنا له الظرف المناسب، يوم اعتقد الجميع أن اللعب على حبال الخطر هو نوع من التسلية، أو بأحسن الأحوال وسيلة لإبهار الآخر وإرهابه، ومن ثم يمكن النزول عن تلك الحبال ومعاودة ممارسة طقوس الحياة، و من ضمنها ملء حكايا الجدات بقصص جديدة عن البطولة ومهارات اللعب. لكن الواقع أن لاعبي الحبال لن يرجعوا، وان الحكايات لن تجد من يخبر تفاصيلها.
منذ البداية، كان ذلك الفرح العامر بالاستعداد للموت على الجبهات، وإصرار الجماعات على صنع وتقديم زوادة الحرب والمحاربين، يشيان بما خبأته خلايا "العيش المشترك" النائمة، بل وبما توقعته وخططت له لقادم الأيام، وكأن الجميع كان ينتظر افتتاح صندوق الباندورا لمعرفة كيف ستنتهي اللعبة، المستحيلة الانتهاء، وإلى أي مدى قد يصل الشرر المتطاير من احتكاك عجلاتها.
ثم ماذا بعد؟ إذا كنا في الشرق قد استنفدنا كل ذخيرتنا العقلية في البحث عن وسائل لقهر الآخر، فماذا أبقينا للسلم والتصالح؟ وإذا كنا قد مسحنا كل الخرائط التي تدلنا على الضوء الذي في أخر النفق، فماذا سيبقى لدينا من بصر لرؤية النهار، الذي سيلد بعد كل تلك العتمة؟ وإذا كنا قد مزّقنا دفتر تراثنا في العيش المشترك، ودسنا فوق تفاصيله، التي هي مشتركاتنا.. فماذا أبقينا لاجتماعنا( الوطني)، أليست الأوطان تراثاً ورموزاً ومشتركات؟
هذه المعركة تختلف عن كل المعارك التي سبقتها، يقال أنها تشبه الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا المسيحية في قرون خلت، حيث تؤكد الوقائع التاريخية أن مدنا وأريافاً بكاملها جرى مسحها عن الوجود، وان كثافة الدماء غطت وجه أوروبا من شرقها إلى غربها، وانتهت تلك الحروب إلى قناعة راسخة بعدمية الصراعات الدينية، وان الحل الوحيد هو في الانخراط في إطار الكيان الوطني، واعتبار السياسة شأناً عاماً يخص الجميع، من دون تفريق أو إقصاء أو احتكار.
لكننا في الشرق لم نزل بعيدين عن هذا الفهم، بل حتى لم نصل إلى حد تعريف ماذا نريد، وما زالت صراعاتنا في بدايتها، إذ تقبع في مربع الخضوع أو الركوع، وإما قاتل أو مقتول. وفي حال الإحساس بتراجع القوة والقدرة على الإخضاع فليس ثمة طريق ثالث سوى الطريق "الكانتوني"، ليذهب كل منا إلى كانتونه ويجري الاستعدادات اللازمة للجولة المقبلة..عليهم.
المشكلة التي تواجهنا، بل تواجه رغباتنا، أن الجغرافيا المشرقية ليست مطواعة بالقدر الذي يناسب خياراتنا، ولعّل من سوء حظنا أن الأقدار التي ساقت معهما سايكس وبيكو، أصحاب الصيغة الجغرافية الأولى، ساقت معهم أزمتنا التاريخية المركبة، فمن جهة فرضت علينا العيش في قمقم واحد عيشة النكد، ومن جهة أخرى تأبى تلك التقسيمات إعادة القسمة على أكثر من واحد، وكأنها في تصميمها استنفدت كل ممكنات القسمة، فضاقت الأرض على سعة أحلامنا!
والمشكلة أيضاً أننا في جزر جغرافية، متناثرة وموزعة، لا يمكن معها صناعة مركب جغرافي واحد متواصل وممتد، يحمل على متنه كل الضغائن العشائرية والمذهبية دائماً كانت القطيعة حاضرة، وغالباً تتطلب عمليات إعادة الوصل أثماناً فوق طاقتنا وقدرتنا.
فما العمل إذاً، إذا كانت قدرات كل مكوناتنا الاجتماعية، وتشكيلاتها العسكرية، قائمة على القهر ووصلت إلى طريق مسدود؟ وهذه حقيقة بات الجميع يدركها وكل ما بعدها فائض من العذاب بلا معنى، وإذا كانت عقولنا ترفض البحث عن خيارات وبدائل أخرى وأقل تكلفة، فهل يستمر العبث سيد الأحكام؟
نحن يا سادة في الشرق، فشلنا حتى في إبادة بعضنا البعض، وفشلنا في صنع الهدنة، والواضح ان كل شيء بات خارج قدرتنا على الفعل، فهل من ينقذنا؟ ترى ألا يحق للعقلاء منا أن يرفعوا الصوت للمطالبة بإعادة استعمارنا، هل من دولة مستعمرة تمنحنا تلك الفرصة، علّنا نحفظ حياة ما تبقى من أبناء، يجري تجهيزهم على قدم وساق للذهاب إلى الموت؟