الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قبل العودة إلى جنيف

قبل العودة إلى جنيف

08.02.2014
د. رياض نعسان أغا


الاتحاد
الجمعة 7/2/2014
اختلفت رؤى السوريين حول ما تم إنجازه في الجولة الأولى من المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة السوريين، بعضهم رأى جلوس الوفدين متحاورين إنجازاً بحد ذاته، وآخرون رأوا إنجازاً أن يوافق النظام على وثيقة جنيف 1 ثم يكشف تهربه من استحقاقاتها، ويشيد كثير من أنصار الثورة السورية بخطاب رئيس الائتلاف الذي نجح مدخله الإنساني في روايته المثيرة لقصص قتل الأطفال وهم في الطريق إلى مدارسهم فقد هز الضمائر التي تبلدت، كما يشير المراقبون إلى أن الجولة الأولى أعطت انطباعات جيدة عن أداء وفد المعارضة، وعن حسن تمسكه بالموضوع الرئيس في المفاوضات، ودعوته الصريحة إلى التمسك بمبادئ جنيف 1 وعدم الضياع في متاهات التفاصيل التي تجاهلت القضية الأم، وحاولت تحويل المؤتمر من كونه بحثاً عن حل سياسي للقضية السورية بشموليتها وبكونها ثورة شعب ضد الاستبداد، إلى مؤتمر لمكافحة الإرهاب.
كما أن من الإيجابيات تحسن صورة المعارضة دولياً بعدما تشوهت بفعل الانشقاقات والتجاذبات التي أضعفتها، وكان قبولها بالتفاوض تعبيراً عن حسن استجابتها لقرارات مجلس الأمن، ولرغبة المجتمع الدولي، وإقراراً واضحاً بأنها معارضة سياسية تهدف إلى السلمية، وأن جرها إلى القتال كان إرغاماً حين سدت في وجهها السبل وبات الشعب مضطراً إلى الدفاع عن نفسه بعد أن أصر النظام على القمع الدموي وما سماه الحل الأمني.
ولم يغب عن المجتمع الدولي عامة أن المعارضة السياسية تقف ضد الفصائل المتطرفة التي باتت إرهابية حقاً، وقد كشفت الأحداث التي سبقت المؤتمر أن "داعش" مثلاً تحارب الجيش الحر، وأنها مطمئنة آمنة من جانب النظام، وهي التي تزوده بالنفط من الحقول التي تسيطر عليها، وهو يهادنها ما دامت تحارب الجيش الحر، وتقتل وتسفك باسم الدين. وقد بات كثير من المراقبين يرون أن "داعش" هي مجرد جناح عسكري آخر مثله مثل "حزب الله"، وهما يستخدمان الرايات الدينية وإن اختلفت مذاهبها لمجابهة الثورة وتقديم صورة بشعة عن البديل الذي يقدم على أنه هو البديل القادم الأشد فظاعة وقسوة. وقد نجحت "داعش" في البداية في جعل فئات من الشعب تترحم على القاتل الأول أمام بشاعة الثاني على رغم أن الجريمة في النهاية واحدة، فالشعب يموت بالعشرات يومياً إن لم يكن بالمئات.
وكان من إيجابيات المؤتمر افتضاح فشل المجتمع الدولي برمته في إنهاء حصار الموت جوعاً على عدة مناطق محاصرة في سوريا، وكان عجيباً ذاك الإصرار على القتل جوعاً أمام البشرية كلها. كما أن تصعيد القصف بالبراميل المتفجرة عشوائياً على حلب وريفها في ذات أيام التفاوض نسف مصداقية التوجه إلى الحل السلمي، وجعل المراقبين الحياديين تقنياً يشعرون بحالة من الخزي الداخلي أمام أنفسهم ولاسيما أن أكثرية الضحايا تحت الأنقاض كانت من الأطفال، وقد جاء نشر آلاف الصور عن ضحايا التعذيب وقد ظهرت مع فترة المؤتمر فضيحة للإنسانية جمعاء.
وربما كان من محاسن المؤتمر كذلك أن المعارضة عبرت دولياً عن مطالب الشعب وتمسكت بمطالبها بفك الحصار وإطلاق سراح مئات الآلاف من المعتقلين وبإنهاء القتل تحت التعذيب، وإنهاء القصف اليومي للمدن والأرياف، وبعودة المهجرين، وبحل سياسي يفضي إلى آمال الشعب كله بالحرية والكرامة والديمقراطية، بينما كان الوفد الرسمي يمثل شخصاً ويبحث عن مبررات لشرعنة قتل الشعب بذريعة كونه شعباً إرهابياً وخائناً.
وربما كان من الإيجابيات السياسية ذاك التحول التدريجي في موقف موسكو التي بدأت تقول إنها وسط بين الطرفين، ولم تعد تقدم نفسها إعلامياً على أنها الحامية المتشددة والمحاربة العلنية للشعب السوري، وبدت تفسيراتها لمبادرتها بجنيف 1 مضطربة ومترددة حول ماهية الهيئة الانتقالية، وقد التقطت المعارضة هذه اللحظة التحولية الخافتة وأجرت مباحثات في موسكو بدت إيجابية على صعيد الشكل فقط، ومن الممكن أن ترتقي بالتدريج على صعيد المضمون.
وعلى الجانب الآخر من الرؤى حول المؤتمر تبدو النتائج العملية غير ذات شأن، فبعض المحللين يرون أن المؤتمر لم يقدم شيئاً، وأن وفد النظام نجح في التهرب من مواجهة الأسئلة الكبرى عبر ما يتفوق فيه مما يسمى فن التعمية والسفسطة، وكان المؤتمر فرصة لأعضاء الوفد للتنافس في تقديم الولاء الشخصي.
وعلى الصعيد الدولي بدا موقف الولايات المتحدة بارداً أكثر من برودة الطقس في سويسرا، وقد استمعت إلى رسالة السفير الأميركي للشعب السوري فوجدتها نوعاً من فض العتب، والرجل يعبر عن موقف بلاده التي بدأ بعض السوريين يظنون أنها تتريث وتنتظر أن يتهدم كل شيء في سوريا كيما تتدخل بقوة سياسية، وأنا أرجو ألا يكون هناك حل عسكري يزيد الطين بلة كما يقال، ولكنني أرجو إيجاد حل سياسي صارم قبل تحول سوريا إلى مقبرة جماعية للسوريين.
وإزاء الإخفاق الكبير في مفاوضات الجولة الأولى بدأ بعض السوريين يعتقدون أن الحوار العلني في جنيف هو للتصدير الإعلامي ولترضية الضمائر التي تشعر في أوروبا وفي العالم كله بأن الصمت والإهمال بات محرجاً (ولاسيما بعد أن عبر الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه مرات ومرات!)، ولكن الاتفاقات السرية ربما تحدث في مكان آخر، ومن يعتقدون بذلك هم الذين لا يصدقون ما يحدث من عبثية أمام الموت اليومي الذي يحصد الناس بمئات الآلاف، والفاجعة السورية تتفاقم إلى حد ضاقت به دول العالم، وبات النزوح السوري أكبر من أن تتحمله الدول البعيدة فضلاً عن المجاورة، وباتت قضية أطفال سوريا المحرومين من المدارس تثير اهتماماً دولياً، فثمة جيل بالملايين سيواجه المستقبل محروماً من التعليم، محروماً من بيئة أسرية (وقد تشتت الأهل، عدا من قتلوا أو اعتقلوا أو فقدوا) وهؤلاء قد لا يجدون عملاً في المستقبل سوى الانضمام إلى منظمات انتقامية سيسمونها ثورية ولكن العالم سيسميها إرهابية. ولنا أن نذكر أن إهمال المجتمع الدولي لقضية الفلسطينيين ثلاثة عقود من الزمن بعد نكبة 48، فاجأت العالم في السبعينيات بجيل فلسطيني أقلق العالم وأجبره على أن تصير قضية فلسطين محور كل لقاءسياسي دولي.
إنني على رغم الأسى الفاجع والمرارة القاسية سأبقى متفائلاً بتقدم أفضل في الجولة الثانية من حوار جنيف2، وأرى أن تشارك طهران إذا ما وافقت على مبادئ جنيف 1، فالسياسة فن الممكن والمتاح، وعلينا أن نطمئن من يخشى التغيير أننا نطالب بحرية وكرامة ولا نطالب بحروب وانتقام، وأن حلول العدالة الانتقالية هي التي تعالج المشكلات الناجمة. والهدف الأهم أن يتوقف شلال الدم على الجانبين في أسرع وقت، ولست أطلب أن تستمر الثورة إلى آخر طفل سوري، فتنجح العملية وتموت سوريا، لابد من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن هذا يتطلب أن يتكافأ المتفاوضان في الولاء لسوريا أولاً وللشعب وحده.