الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية

قراءات في الحركة الإسلامية في الحرب السورية

20.04.2016
طارق عزيزة


كلنا شركاء
الثلاثاء 16/4/2016
*طارق عزيزة
مدخل
تزامنت الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة السورية مع “هدنةٍ” نجحت نسبيّاً في خفض منسوب العنف في البلاد، فكانت فرصةً لعودة المظاهرات السلميّة، واستعادة مشاهد الأشهر الأولى من الثورة، حين كان الحراك المدنيّ السلميّ سمتها الرئيسية، قبل تصاعد العنف، واستفحال الصراع المسلّح، وطغيان الجماعات ذات المشاريع “الإسلامية” على من عداها من الفئات التي تواجه نظام الاستبداد. وكان لافتاً، في سياق عودة التظاهرات إلى صدارة المشهد، إعادة الاعتبار إلى علم الاستقلال، علم الثورة، وشعارات الثورة الأولى، على حساب الرايات “الإسلامية” المختلفة، ووقوع مصادماتٍ بين المتظاهرين وبين سلطات الأمر الواقع الإسلامية في بعض المناطق الخاضعة لسيطرتها، وصولاً إلى قيام السكّان بإجبار “المجاهدين” على الانسحاب من مقرّاتهم، كما في معرّة النعمان (14 آذار/ مارس 2016). وهذا تعبيرٌ واضحٌ عن رفض السوريين عموماً لأجندات جماعات الجهاد وممارساتها، وقد عبّروا عنه ما أن أُتيحت لهم الفرصة.
يعيد هذا إلى الواجهة مسألة “أسلمة الثورة”، وضرورة فهمها وتحليلها، بوصفها ظاهرةً طارئة، جاءت نتيجة أسبابٍ وظروفٍ محدّدة، وهو ما تنشغل به هذا الدراسة، إذ تبحث في مسار “أسلمة الثورة“، وتناقش الظروف العامّة وحيثيات نشوء الظاهرة وانتشارها، الذي ترافق مع انزياح الثورة نحو “العسكرة”، عبر تضافر أدوار النظام والمعارضة وبعض الجهات الخارجية الداعمة لكلٍّ منهما، وصعود نجم “السلفية الجهادية” خلال سنوات الثورة. ومن خلال العرض والتحليل يجري رصد جدلية العلاقة بين المجموعات الإسلامية المقاتلة وبين “المعارضة السياسية السورية”، دون الخوض في موضوع الجماعات المرتبطة بالجهاد العالميّ، إلا ما كان منه متّصلاً بضرورات الدراسة.
مقدّمات ظاهرة “أسلمة الثورة
من المفارقات التي سجّلَتها مجريات الثورة السوريّة وتحوّلاتها أنّ ما قدّمه إعلام نظام الأسد في محاولاته لتبرير “الحلّ الأمنيّ”، وروايته الرسمية منذ خروج أولى المظاهرات السلمية المطالبة بالتغيير، عن “الإمارات السلفيّة” و”الفتنة الطائفيّة”، وجد على أرض الواقع معطياتٍ تنسجم مع مضمونه، ولذلك أسبابه المتشعّبة الداخليّة والخارجيّة، تتعلّق ببنية النظام وممارساته، أو بتركيبة المعارضة وارتباطاتها. ذلك أنّ فئاتٍ من المعارضة، وداعميها، انجرّوا بالفعل نحو تبنّي خطابٍ دينيٍّ/ مذهبيٍّ، ألقى بظلاله باكراً على بعض أوساط الشارع المنتفض. كان لذلك أثره العميق في عزوف شرائح واسعةٍ من الرأي العام، داخل سوريا وخارجها، عن تأييد الثورة الشعبية، بل ومعارضتها، بعد أن كان التعاطف معها قد بلغ أوج مستوياته. فالمشهد الدينيّ في سوريا بالغ التعقيد، نظراً لشدّة التنوّع المذهبيّ والطائفيّ والإثنيّ، واشتغال النظام على الحساسيات والتناقضات المجتمعية بما يخدم تأبيد حكمه على حساب تذرير المجتمع، فلم يكن من الصعب إشعال فتيل الشقاق الطائفيّ.
من جهته، أدّى الضخّ السلفيّ الدعويّ الخليجيّ الكثيف ضدّ الشيعة عموماً، والذي فسّر التحالف الاستراتيجيّ العسكريّ والتقنيّ والسياسيّ، السوريّ–الإيرانيّ، حول الصراع مع إسرائيل، بمفردات التحالف الفئويّ الطائفيّ الضيّقة، إلى خلق وعيٍ زائفٍ أو مقلوب، ظهر في شكلٍ محدّد، في صورة وعيٍ مشحونٍ طائفيّاً[1]. وجد ذلك صداه في الطرف المقابل، خصوصاً وأنّ الانشطار السنّيّ–الشيعيّ جعل من الطائفيّة “عاملاً ثابتاً في التاريخ الإسلاميّ”، وإن خمدت جذوتها أو اتّقدت تبعاً لموازين القوى، وفق تعبير الراحل جورج طرابيشي[2].
من الحالات المبكّرة الدالّة على سعي بعضهم إلى تطييف الحراك الشعبيّ ومذهبته، والتي وقعت بعد عشرة أيامٍ فقط من خروج أوّل مظاهرةٍ في دمشق، وأسبوعٍ من انطلاق مظاهرات درعا، خطبة الجمعة (25 آذار/مارس 2011) للشيخ يوسف القرضاوي، المحسوب على “الإخوان المسلمين”، ويترأس “الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين”.
حملت خطبة القرضاوي تلك رموزاً طائفيّة، فانتقد الأسد والطائفة العلوية، وقال إنّه “أسير طائفته”، وإنّ “الشعب السوريّ يعامله على أنه سنّيّ”، ما أسهم في زيادة حدّة الاستقطاب الذي بدأ يظهر آنذاك، إذ أذكى خطابه نوعاً من الانحياز والتهجّم اللفظيّ على الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد، وقد أنتج هذا الخطاب تفاعلاً ولغطاً تقسيميّاً جرى تداوله ضمن الرأي العام، خصوصاً في ظلّ الرواية الرسمية للنظام عن الفتنة الطائفية[3]. ومن الأمثلة المبكرة أحاديث الشيخ السلفيّ عدنان العرعور، الذي صدّر خطاباً شعبويّاً طائفيّاً منذ نيسان/أبريل (2011)، وتميّز بفتاويه الانفعالية، الطائفية، فلم تخلُ حلقةٌ من برنامجه على قناة “صفا” الفضائية من حديثٍ عن “العلوية” و”السنّة” و”الشيعة”، إضافةً إلى دعواته إلى الجهاد. اكتسب العرعور حينها متابعةً كبيرةً في الأوساط الشعبية المحتجّة، لاسيما في حمص ودرعا وإدلب وحماة ودير الزور، ورفعت شعارات المحتجّين في كثيرٍ من الأوقات لافتاتٍ تؤيّده وتحبّذ خطابه، وهو ما يمكّن من قياس مدى تأثيره في الرأي العامّ من جهة، والانحراف في مسار الثورة ومطالبها من شعاراتٍ جامعةٍ تحت مسمّيات الحرية والديمقراطية إلى مسمّياتٍ شعاريّةٍ لخّصت -في جزءٍ منها- نزوعاً نحو الطائفية والانتقاميّة والكراهية، من جهةٍ ثانية[4].
الأهمّ من كلّ ما سبق هو التسميات التي أُطلقت على العديد من أيّام الجمع وتحمل دلالاتٍ دينيّةً صريحة، بما لذلك من تأثيرٍ في توجيه الرأي العامّ ومساراته، إذ كان يوم الجمعة هو الموعد الرئيس للمظاهرات، وكلّ تسميةٍ تحمل رسائل سياسيةً وأيديولوجيةً للداخل والخارج. أما المسؤول عن التسميات فكان صفحة “الثورة السورية ضد بشار الأسد” على الفيسبوك، والتي يشرف عليها أحد أبناء “الإخوان المسلمين” في المنفى.
من أمثلة التسميات تلك، والثورة لم تكن قد أتمّت بعد عامها الأول: “أحفاد خالد” (22/7/2011)؛ “الله معنا” (5/8/2011)؛ “لن نركع إلا لله” (12/8/2011)؛ “الله أكبر” (4/11/2011)؛ “إن تنصروا الله ينصركم” (6/1/2012). وصولاً إلى الجدل الذي أثارته صفحة “الثورة السورية” بعزمها على تسمية يوم الجمعة (27/1/2012) ب”إعلان الجهاد”، وأمام انتقادات ناشطي الحراك السلميّ اضطرّ مسؤولو الصفحة إلى التراجع. غير أنّ التسمية البديلة التي اعتمدوها لتلك الجمعة “حق الدفاع عن النفس” بدت محاولةً لتمرير مضمون الرسالة التي تحملها تسمية “إعلان الجهاد”، لا سيما وأنّها جاءت على حساب تسمية “جمعة الدولة المدنية” التي لاقت دعماً واسعاً، وتبنّاها ورفعها عددٌ كبيرٌ من المتظاهرين.
مجمل تلك المعطيات، إضافةً إلى تعمّد إعلام النظام وحلفائه، وإعلام المعارضة وبعض داعميها، إبراز الخطاب الدينيّ الذي أنتجها/ ونتج عنها[5]، ساهمت في تأجيج خطابٍ مذهبيٍّ وشحنٍ طائفيٍّ متبادل. أدّى ذلك، معطوفاً على القمع الوحشيّ الذي مارسه النظام، إلى تهيئة الأجواء للانزلاق نحو عنفٍ طائفيٍّ شهدته بعض المناطق، ثمّ ليكتسي الصراع لاحقاً، وبشكل أكبر، بعداً دينيّاً/ جهاديّاً، وهو ما لم يكن على الإطلاق خارج حسابات مركز صنع القرار في سلطة الأسد، إذ جرى إطلاق سراح أعدادٍ كبيرةٍ من المعتقلين الإسلاميين، ممن يحملون “الفكر الجهاديّ”، وسبق للكثيرين منهم المشاركة في “الجهاد العراقيّ” وسواه. واستطاع هؤلاء خلال زمنٍ قياسيٍّ تشكيل مجموعاتٍ جهاديةٍ متعدّدة، تتمايز عن بعضها بالدرجة لا بالنوع. وهي، وإن كانت علاقاتها البينية لا تخلو من التنافس والصراعات، لكنها كثيراً ما استطاعت تنحية خلافاتها جانباً، لتفرض نفسها بقوّةٍ على حساب “الجيش السوريّ الحرّ”، في معظم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
جدلية “العسكرة” و”الأسلمة
منذ الأشهر الأولى للمظاهرات، وكردّ فعلٍ على القمع الوحشيّ الذي مارسه النظام لإخمادها، ومع تصاعد الحملات الأمنية على الأحياء والمناطق المنتفضة، بدأت تظهر بعض حالات حمل السلاح، ضمن إطار الدفاع عن النفس أمام بطش الأجهزة الأمنية. فطغت سمات العفويّة والارتجال على المظاهر المسلّحة الأولى في الثورة، وكذلك على حالات الانشقاق الأولى عن الجيش، والتي شكّلت النويات الأولى لما أصبح “الجيش السوري الحرّ“. فكان ذلك أقرب إلى “ردّ الفعل” على عنف النظام منه إلى المبادرة المنظّمة والفاعليّة الحقيقيّة.
حمل الشكل العفويّ من التسلح، في بداياته، طابعاً تقليديّاً يعكس واقع البنى الاجتماعية العشائرية والتقليدية التي انطلق منها في مناطق مختلفة، كبعض أحياء حمص، وقرىً في الغوطة الشرقية بريف دمشق. ترافق ذلك مع تزايد عمليات انشقاق الضباط والمجندين. لم تعترف المعارضة علناً بوجود حالةٍ من التسلّح واجهت العمليات الأمنية في الأشهر الأولى، لكن بعد أن أعلن عددٌ من العسكريّين تشكيل “لواء الضباط الأحرار” (9 حزيران/يونيو 2011)، ثمّ تأسيس “الجيش السوريّ الحرّ” (29 تموز/يوليو 2011)، قام نشطاء المعارضة على الإنترنت، وهيئاتها التنظيمية، بتبنّيه وتضخيمه وتشجيعه، وقدّموا خطاباً إعلاميّاً حاول أن يحاكي التجربتين الليبية واليمنية بتضخيم ظاهرة الانشقاقات، وإجمال كلّ الأعمال المسلحة التي تواجه النظام تحت لوائها. وعملت وسائل الإعلام العربية، وخاصة الجزيرة والعربية، على تضخيم قضيّة المنشقّين إعلاميّاً، وهو ما أدّى إلى بروز حالةٍ من “العسكرة”، لم تستطع هذه الوسائل إنكارها في ما بعد[6].
  إنّ عمليّة عسكرةٍ إعلاميّةٍ للثورة، مقصودةٍ وممنهجة، سبقت ظهور “المعارضة المسلّحة” والمواجهات الفعليّة مع قوّات النظام. ذلك أنّه، بعيداً عن ردود الفعل ومظاهر التسلّح البسيطة والصدامات على هامش المظاهرات في بعض الأحياء والمناطق، فإنّ أوّل سلوكٍ واضحٍ تعلن “المعارضة المسلّحة” من خلاله شروعها في المواجهة العسكرية المفتوحة مع قوّات الجيش والأمن كان يوم (15 تشرين الثاني/نوفمبر 2011)، بالهجوم على مقرٍّ للمخابرات الجوّية في حرستا بريف دمشق، ما عنى البدء فعليّاً في العمل لإسقاط النظام عسكريّاً. وهو ما تلقّفته أطرافٌ عربيّةٌ وإقليميّةٌ ودوليّة، لم تخفِ دعمها لهذا النهج، خصوصاً مع تبنّيه من أوساطٍ معارضةٍ في الخارج وتوفيرها التغطية السياسيّة له، وتعليق آمالها عليه.
وبخلاف “الجيش الحرّ” والمجموعات المسلحة الأهلية التي ظهرت بكثرة، كان هناك مشهدٌ ثالثٌ ينمو بسرّيةٍ وكتمانٍ شديدين، بالتوازي مع المشهدين السلميّ والعسكريّ للثورة، هو مشهد الجماعات المقاتلة ذات المحتوى العقديّ الصارم والصريح، وهو ما يمكن التعبير عنه بمشهد “الثورة الجهادية”. مشهد ثورةٍ لا يخفى عليها ذاك الرصيد التاريخيّ، فكراً وعقيدةً وعملاً وأهدافاً، ولا خبراته أو خبرات وقائع تيارات “الجهاد العالميّ” التي تجوب اليوم ساحات العالم الإسلاميّ[7].
مع تصاعد عمليات “المعارضة المسلّحة” وانتشار أخبارها في الإعلام، المنتمية منها إلى “الجيش السوريّ الحرّ” أو غيرها، بدأت تظهر الملامح “الجهادية”. إذ حملت معظم الكتائب والألوية أسماء إسلامية، وامتلأت بياناتها وتسجيلاتها المصوّرة، المنتشرة بكثرةٍ على الإنترنت، بالعبارات الدينيّة والجهاديّة. كما ظهرت مجموعاتٌ جهاديةٌ صريحة، تقاتل بهدف إقامة “دولةٍ إسلاميّة” بالفعل وليس وفقاً لاتّهامات النظام وآلته الدعائية. فتنظيم “القاعدة“، ممثلاً ب”جبهة النصرة لأهل الشام“، ظهر في سوريا رسميّاً في (24 كانون الثاني/يناير 2012)، قبل إتمام الثورة عامها الأوّل. وبعد أشهرٍ أعلنت “جبهة النصرة” ومجموعاتٌ إسلاميةٌ منتشرةٌ شماليّ البلاد، أبرزها “حركة أحرار الشام“، التوافق على “تأسيس دولةٍ إسلاميةٍ عادلة” (19 تشرين الثاني/نوفمبر 2012)[8]، ردّاً على تشكيل “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة“.
استقطبت التنظيمات الجهادية أعداداً متزايدةً من المقاتلين الأجانب، من جنسياتٍ عربيّةٍ وغيرها، “للجهاد” في سوريا. ولم تقتصر مشاركة “المجاهدين” غير السوريين على القتال إلى جانب المعارضة، فقد أرسل “حزب الله” اللبنانيّ، الحليف للنظام، “مجاهديه” إلى سوريا للقتال ضدّ المعارضة (تبعته ميليشياتٌ شيعيةٌ إيرانيةٌ وعراقيةٌ وأفغانية). وبرز دور “حزب الله” بشكلٍ أكبر بعد استعادته السيطرة على مدينة القصير الحدوديّة بريف حمص من مقاتلي المعارضة (أيار/مايو 2013)، ليتبعَ ذلك إعلان عددٍ من رجال الدين الإسلاميّ الداعمين للمعارضة، في بيانٍ رسميٍّ، “وجوب الجهاد” واعتبار ما يجري في سوريا “حرباً على الإسلام”، في مؤتمرٍ عُقد لهذه الغاية في القاهرة (13 حزيران/يونيو 2013) تحت عنوان “موقف علماء الأمة من القضية السورية”. وحينها قدّم الداعية الإسلاميّ الشهير محمد حسّان للبيان بالقول: “إنّ المعادلة تغيّرت بنزول الروافض إلى أرض الشام”[9].
المعارضة السورية و”أسلمة الثورة
اتّسم موقف المعارضة السوريّة، وتحديداً الممثلة في “المجلس الوطنيّ“، ثم “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة”، اللذين اعتمدتهما تباعاً بعض القوى الإقليميّة والدولية بصفة “الممثل الشرعيّ للشعب السوريّ”، حيال ظاهرة “أسلمة الثورة” بالالتباس والتذبذب. يتأكد ذلك في موقفها من أكثف رموز الظاهرة، أي الفرع السوريّ للقاعدة: “جبهة النصرة لأهل الشام”، بزعامة أبي محمد الجولاني.
تراوح الموقف الرسميّ من “النصرة/ القاعدة” بين حالة إنكارٍ وانفصالٍ عن الواقع في البداية، مروراً باعتبارها “جزءاً من الثورة”، وأخيراً دعوة زعيمها إلى التخلي عن ارتباطه بتنظيم القاعدة، بغية تلميع صورة الجبهة وتسويقها دولياً. ففي تصريحاتٍ موثّقةٍ لبرهان غليون، وجورج صبرا، وكلٌّ منهما تولّى رئاسة “المجلس الوطنيّ”، رأى غليون أنّ “ما يروّجه تنظيم القاعدة عن دورٍ له في ثورة الشعب السوريّ كلامٌ غير صحيحٍ وغير دقيق”، وأنه “مسيءٌ بحقّ شهداء الثورة”، وأن الحديث عن القاعدة ودورها في الثورة “هو من نسيج النظام لتحويل الأنظار عما يحصل، ونرفض أن يلوّث هذا التنظيم السيّئ الذكر ثورتنا”. أمّا صبرا فقال إن “الشعب السوريّ يخوض منذ سبعة عشر شهراً معركةً في كلّ القرى، ولسنا بحاجةٍ لهذا التنظيم الإرهابيّ وادعاءاته التي ليس لها أيّ مرتكزاتٍ حقيقية”. وأضاف: “التيارات الإسلامية السورية المتواجدة في قلب الثورة هي تياراتٌ معتدلة ووسطية، وبعيدة كلّ البعد عن التطرّف ورؤية القاعدة وأفكارها، لذا ننفي أن يكون لهذا التنظيم أيّ وجودٍ داخل سوريا”، مؤكّداً أن “الشعب السوريّ ليس بحاجةٍ لأيّ دعمٍ من أيّ جهة، وبخاصّةٍ من القاعدة، هذا التنظيم الذي يلك سجلاً سيّئاً بحق العالم. فالشعب ناهض، ويخرج بالتظاهرات. والشعب ليس بحاجةٍ إلى هذا الموضوع، وإلى هذا التنظيم الذي يشوّه صورة الثورة وإنجازات الشعب السوريّ البطل”. أمّا عضو المكتب التنفيذي للمجلس، سمير نشّار،فوصف القاعدة بأنّها “ظاهرةٌ إرهابيةٌ تمزّق المجتمع، في حين أن المجتمع السوريّ هو مجتمعٌ متنوع. والسنّة في سوريا هم وسطيون ومحافظون، وليسوا من أنصار القاعدة”[10].
المفارقة أنّ مجلس هؤلاء نفسه (بضغوطٍ إخوانيةٍ ربّما) عبّر، بعد أشهرٍ قليلةٍ، عن “استنكاره” قرار الولايات المتّحدة بإدراج “جبهة النصرة” على قائمة الإرهاب، معتبراً أنّ “كلّ من يقاتل النظام هو جزءٌ من الثورة”. حتّى أنّ صفحة “الثورة السورية” خصّصت الجمعة التي تلت القرار الأمريكيّ للتضامن مع “النصرة” ورفض وسمها بالإرهاب.
الأخطر كان قيام المعارضة بإدراج الانتهاكات التي ترتكبها الجماعات الإسلامية ضمن خانة “انتصارات الجيش الحرّ”، كما حصل عند الهجوم على عددٍ من قرى ريف اللاذقية، وحينها أصدر الائتلاف المعارض بياناً يؤيّد ما جرى[11]. المفارقة أنّ “الجيش الحرّ” لم يكن من نفّذ الهجوم وإنما الكتائب الجهادية، وفي مقدّمتها “جبهة النصرة” و”أحرار الشام”، وأن ما وصفه بيان المعارضة ب”انتصارات الجيش الحرّ على ضفاف الساحل السوريّ” لم يكن سوى مجازر وانتهاكاتٍ في حقّ المدنيين العزّل، وثّقها تقريرٌ رسميٌّ صادرٌ عن منظمة Human Rights Watch[12].
وعلى الرغم من كلّ تلك “الإيجابية” التي طبعت، في النهاية، موقف المعارضة من “النصرة” وسواها من الكتائب الإسلامية، استمرّت غالبية هذه الكتائب في إعلان وقوفها صراحةً ضدّ أيّ حلٍّ سياسيّ، ورفضها كلّ تشكيلات المعارضة السياسيّة، واتهامها بالعمالة للغرب، على نحو ما مرّ بيانه[13].
مجاهدون” وسياسيون
ضمن سيرورة التحوّلات في المشهد السوريّ، بدأت بعض المجموعات المقاتلة التي تتبنى “الفكر السلفيّ” تتخفّف نسبيّاً من حمولاتها الأيديولوجية، فشرعت في فتح قنوات اتصالٍ وتشاورٍ مع المعارضة السياسية. ولعلّ تصاعد المخاوف الغربية من “الإرهاب” وتكثيف الحملات العسكرية ضد الجماعات المتطرّفة، إلى جانب شروع الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوريّ بإطلاق مساراتٍ للتسوية السياسية، كانا في خلفية مشهد تحوّلات مواقف بعض “المجاهدين”، وانخراطهم في السياسة.
من جهتهم، حاول “الإخوان المسلمون” تلميع صورة “النصرة”، وترويجها سوريّاً وإقليمياً، خصوصاً بعد التقدّم الميدانيّ ل”جيش الفتح”، التحالف المكوَّن من مجموعاتٍ جهادية، بعضها مقرَّبٌ من الإخوان، وتشكّل “النصرة” عموده الفقريّ. فدعوا الجولاني مراراً إلى فكّ ارتباطه مع “القاعدة”، وإحدى الدعوات أطلقها محمد حكمت وليد، المراقب العام للجماعة في سوريا. في الإطار نفسه يمكن إدراج موقف قناة “الجزيرة” القطرية، المتناغمة مع التوجّهات الإخوانية، حين قام مذيعهاأحمد منصور (ذو الميول الإخوانية) باستضافة زعيم الجبهة على شاشة الجزيرة. فمنصور، الشهير بأسلوبه الاستفزازيّ مع ضيوفه، ظهر بأسلوبٍ مختلفٍ في حضرة الجولانيّ، لدرجة أن اللقاء بدا نوعاً من “إعلانٍ ترويجيٍّ” للجبهة وزعيمها، و”دردشةً بين صديقين حميمين”، وليس حواراً صحافيّاً[14].
جديرٌ بالذكر أنّ محاولة استمالة “جبهة النصرة” وحثّها على الانفصال عن “القاعدة” لم تقتصر على الإخوان، ذلك أنّ خالد خوجة، الرئيس السابق للائتلاف، عبّر عن هذا في أوّل تصريحٍ له عقب انتخابه. غير أنّ ذلك كلّه لم ينفع، وتمسّكت “النصرة” بهويّتها القاعدية.
أمّا التحوّل اللافت والأهم فتمثّل في مشاركة “حركة أحرار الشام الإسلامية” و”جيش الإسلام” في “الهيئة العليا للمفاوضات” التي شكّلتها المعارضة عقب مؤتمرها في الرياض (9 كانون الأول/ديسمبر 2015)، وتسمية المسؤول السياسيّ في “جيش الإسلام” كبيراً للمفاوضين. يدفع هذا التحوّل إلى التساؤل عن دور هذه التشكيلات في المرحلة المقبلة، وكيف ستتعامل مع السياسة واستحقاقاتها، وهي التي تتبنّى أيديولوجياتٍ دينيةً مترعةً بالقداسة.
خلاصة
على امتداد خمس سنواتٍ مضت منذ انطلاقتها، أنتجت التحوّلات التي شهدتها الثورة السورية معطياتٍ مركّبةً ومتداخلة، زادت من تعقيدات المشهد السوريّ، وفتحت مستقبل البلاد على احتمالاتٍ شتّى، لا تنسجم مع مقاصد الثورة وغاياتها، كان أبرزها طغيان “الخطاب الإسلاميّ” على المشهد العامّ، نتيجة ظهور الجماعات المنتمية إلى “السلفية الجهادية”، وبعضها مرتبطٌ ب”الجهاد العالميّ” ومنظماته المصنّفة على قوائم الإرهاب، مروراً ب”جهاديين معتدلين” لبعضهم صلاتٌ وثيقةٌ مع “الإسلام السياسيّ” التقليديّ. تعلن هذه الجماعات عداءها للديمقراطية، وتحمل أجنداتٍ تناقض المشروع الوطنيّ السوريّ، ممّا أضرّ بالثورة السورية، وبصورتها داخلياً وخارجياً، وانعكس سلباً على موجة التعاطف معها.
 أسهم ذلك في تعزيز فرص النظام لاحتواء الثورة، ومحاولته إعادة تقديم نفسه للعالم بوصفه شريكاً في “الحرب على الإرهاب”. وإذ يبدو “منطقيّاً” سعي نظام الاستبداد لدفع الثورة نحو “الأسلمة” وإثارته النعرات الطائفية، واستفزاز المنتفضين لدفعهم نحو التطرّف بشتّى السبل، ضمن استراتيجياتٍ توسّلت كلّ ما من شأنه إنهاء الثورة، ووسمها بالتطرّف والإرهاب؛ فإنّ من الأخطاء المدمّرة التي ارتكبتها “المعارضة”، أو بعضها الأهمّ ممن يُفترض بهم تمثيل الثورة سياسيّاً ودبلوماسيّاً، هو تبني سلوكٍ وخطابٍ يصبّان في اتّجاهٍ أضرّ بالثورة، وحرفها عن خطّها الوطنيّ وشعاراتها وأهدافها الأولى الجامعة.
[1] محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سوريا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، آذار 2012. ص 194.
[2] للمزيد عن تاريخ “الانقسام السني-الشيعي” راجع: جورج طرابيشي، هرطقات2، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2008.
[3] حمزة مصطفى المصطفى، المجال العام الافتراضي في الثورة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، نيسان 2012، ص 93.
[4] المصدر نفسه، ص 100 – 102. وقد لبّت شرائح واسعةٌ من المحتجّين دعوات العرعور بالتكبير (الله أكبر) ليلاً من على أسطح وشرفات المنازل. وهذا، حتى وإن كان نوعاً من “النكاية” بالنظام من خلال “التظاهر في المنازل”، وبالتالي لا يعني بالضرورة تبنّي هؤلاء الخطاب الدينيّ؛ لكنّه يعدّ مؤشّراً على اتساع نطاق متابعي العرعور في ذلك الحين.
[5] كان لافتاً، بعد انقضاء “جمعة الصمود” 8/4/2011، وسقوط قتلى فيها، أنّ الشعارات بدأت تأخذ طابعاً مصبوغاً بشعاراتٍ وخطبٍ دينيّة، تبارك التضحيات وتستعدّ للشهادة، ويلبس فيها بعض المتظاهرين الأكفان، بما يشكّل –تحليليّاً– ملامح رمزيّةً لتكوّن بيئةٍ أوليّةٍ قابلةٍ –في ظلّ شروطٍ معيّنة– للتجييش والتعبئة “جهاديّاً”. العقد الأخير في تاريخ سوريا، ص 228.
[6] المصطفى، مصدر سبق ذكره، ص 137- 141.
[7] أكرم حجازي، “الجيش الحر جبهة النصرة كتائب أحرار الشام خريطة القوى المسلحة”، شبكة فلسطين للحوار.
[8] تمكن مشاهدة تسجيل مصوّرٍ للإعلان على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=v151Fh6q_qM
 [9] تمكن مشاهدة البيان على الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=vh1YxmJ7CFw
 [10] انظر: “معارضون سوريون يقللون من أهمية دور القاعدة في الثورة”، على الرابط: http://www.arabsea.com.sa/news-action-s-id-2812.htm
 [11] انظر: بيان الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة “انتصارات الجيش الحر على ضفاف الساحل السوري“، صادر بتاريخ 4 آب/ أغسطس 2013.
[12] انظر: “دمهم ما زال هنا”، على الرابط: https://www.hrw.org/ar/report/2013/10/11/256480
 [13] راجع الهامش رقم 8.
[14] للمزيد: طارق عزيزة، “عن إخوان القاعدة”، جريدة الحياة، 12 حزيران/يونيو 2015
***
حركة أحرار الشام الإسلاميّة: بين الجهاديّة والإخوانيّة
(2)
*راتب شعبو
مقدّمة
في المجال الفكريّ والسياسيّ والتنظيميّ الفاصل بين تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين وجدت حركة أحرار الشام مكاناً لها. وسَعَت إلى أن تنهج لنفسها طريقاً متمايزاً بقدر ما تسمح هذه المسافة القلقة بين السلفية الجهادية والإخوانية. استطاعت الحركة أن تثبت وجودها في سوريا وأن تنمو وتكتسب قوّةً وشعبيةً واسعةً رغم حداثة عهدها ورغم (وربما بسبب) عدم اتكائها على تنظيماتٍ مكرّسةٍ سلفاً، أكانت تنظيماتٍ محليةً أو خارجية، ورغم احتفاظها بالتمايز أيضاً عن الجيش الحرّ، في وقتٍ كان فيه هذا الوليد العسكريّ السوريّ يحظى باهتمامٍ ودعمٍ إقليميٍّ ودوليّ.
 واللافت أن الحركة استطاعت أن تنهض من نكسةٍ كبيرة، تمثلت في مقتل معظم أفراد الصف الأول والثاني من قيادييها وشرعيّيها في حادثة رام حمدان، التي لا تزال غامضةً إلى اليوم، وقضى فيها نحو خمسين من قيادييها وكوادرها في (9/9/2014). استطاعت الحركة امتصاص الصدمة واختيار قيادةٍ بديلةٍ ومواصلة نهجها، ما مكّنها من الحفاظ على الرأسمال الرمزيّ للقادة الراحلين واستثماره.([1])
السؤال الذي يحرّك البحث هنا هو: كيف حازت حركة أحرار الشام الإسلامية حضورها الوازن ونجحت في استثمار الريح الإسلامية التي شملت الثورة السورية؟
رعايةٌ إقليمية؟
يمكن الاستدلال على إجابةٍ عن السؤال السابق بشأن بروز وانتشار حركة أحرار الشام من ملاحظة العلاقة المميزة للحركة مع كلٍّ من تركيا([2]) وقطر، وهما البلدان اللذان تربطهما علاقةٌ وثيقةٌ مع جماعة الإخوان المسلمين. لماذا يعمل هذان البلدان على مساندة حركةٍ مغايرةٍ لحركة الإخوان المسلمين؟ لماذا لا يراهن البلدان على “جماعتهما” بدلاً من التعويل على حركةٍ بديلة؟
في دراسةٍ لمعهد كارنيغي عن الإخوان المسلمين السوريين، تناولت تفاعل الجماعة مع الثورة حتى شهر أيار/مايو (2013)، بعنوان “الصراع من أجل التكيف: جماعة الإخوان المسلمين في سورية الجديدة”([3])، تظهر مدى ركاكة التنظيم العجوز في الاستجابة لواقعٍ متحرّكٍ كالواقع الذي فجّرته الثورة السورية: “الجماعة تفتقر إلى أيّ قدرةٍ على السيطرة على الأحداث على الأرض”. أحد الشباب المتعاطفين مع الإخوان وينتمي إلى عائلةٍ إخوانيةٍ يصف الجماعة بأنها “نادٍ للمتقاعدين”. ويمكن اعتبار بروز “مجموعة العمل الوطنيّ من أجل سوريا”، التي كان أحمد رمضان وعبيدة نحاس من أبرز عناصرها، بمثابة حركة احتجاجٍ شبابيةٍ ضد تنظيمٍ شائخٍ من حيث عمر قادته وابتعادهم المزمن عن الواقع السوريّ من جهة، ومن حيث تردّدهم في الاستجابة للانفجار السوريّ، من جهةٍ أخرى.
عملت الدول الإقليمية الساعية إلى حماية نفسها من ارتدادات ومفاعيل الحدث السوريّ على دفع الثورة السورية باتجاه إحداث تغييرٍ إسلاميٍّ في سوريا. وأدركت هذه الدول أن الإخوان المسلمين حصانٌ خاسر، أو، على الأقلّ، حصانٌ لا يسعه أن يكون الرهان الأول، وأن القدرة الخارجية للإخوان في المنفى لا تقابلها قدرةٌ داخلية، بعد أن هزمت الجماعة داخل سوريا في 1982، ولوحقت أمنياً وقانونياً (القانون 49 الذي يعاقب بالإعدام أيّ منتمٍ إلى الجماعة). فضلاً عن أن الجماعة تحمل عقدة العمل المسلح منذ ثمانينات القرن الماضي([4])، في الوقت الذي كان الحلّ العسكريّ مع نظام الأسد هو الحلّ الوحيد في نظر كثيرين، ومنهم مؤسّسو أحرار الشام.
 على هذا يصبح من المنطقيّ أن تعمل هذه الدول على تشكيل، أو بالأحرى دعم، تنظيمٍ جديد. التنظيم الإسلاميّ الذي يمكن أن يخدم الغاية يجب أن يكون جديداً، أي متحرّراً من أعباء الخلافات الداخلية المتراكمة وخطوط الانقسام التي تعتمل في التنظيمات القديمة وتشل فاعليتها؛ ويجب أن يكون مرناً في صيغته التنظيمية فلا يحتاج العضو إلى أشهرٍ كي يُبتّ في أمره؛ كما يجب أن يكون ريفياً أكثر منه حضرياً نظراً إلى أن الزخم الثوريّ تركّز في الريف حيث الحضور الأمنيّ للنظام أقلّ وحيث البيئة أكثر ملاءمةً للعمل العسكريّ ضدّه. كلّ هذه الشروط غائبةٌ، في الواقع، عن تنظيم الإخوان المسلمين، ولذلك جرى العمل على دعم تنظيمٍ شبابيٍّ جديد. وكان من المهم أن يتحرّر التنظيم الجديد، إلى ذلك، من تبعات القاعدة، لما يمكن أن تجرّ الصلة مع القاعدة من أعباء وحمل وزر ماضٍ سيئ الصيت في نظر المجتمع الدوليّ، وكذلك القسم الأكبر من الجمهور السوريّ.
 ما سبق جعل أحرار الشام، الذين يسعون إلى توطيد أنفسهم بصيغةٍ مستقلةٍ يتمايزون بها عن الذهنية القاعدية أو الإخوانية، حصان الرهان بالنسبة إلى هذه الدول، ولا سيما تركيا وقطر. وكان في هذا ربحٌ وخسارةٌ للتنظيم الجديد؛ يتجسّد الربح في المقبولية الشعبية العامة من جهةٍ والدعم الإقليميّ من جهةٍ أخرى، والخسارة هي وقوع الحركة الدائم بين قوّتي شدّ؛ الأولى هي الإسلامية الجهادية العالمية ممثلةً في الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة، والثانية متمثلةٌ في قوىً غير جهاديةٍ (مظلة الجيش الحرّ، وقوى المعارضة السياسية). يمكن، والحال هذا، النظر إلى تاريخ الحركة على أنه المسار الذي رسمته أحرار الشام تحت تأثير محصلة قوى الشدّ هذه خلال سنوات الثورة. وسوف نستبق البحث بالقول إن الميل العام لمسار الحركة، من حسان عبود (منذ تاريخ إعلان الحركة في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، حتى أيلول/سبتمبر 2014) إلى هاشم الشيخ (أيلول/سبتمبر 2014 – أيلول/سبتمبر 2015) إلى مهند المصري (أيلول/سبتمبر 2015 – حتى الآن) كان باتجاه الانفكاك، في النظرة العامة وفي السلوك واللغة، عن السلفية الجهادية والاقتراب لا من قوى الثورة، كما تشير دراسة “أحرار الشام بعد عامٍ طويل” لأحمد أبازيد، بل من الإخوانية بصفتها التعبير الإسلاميّ الذي يحرص على القبول العامّ والعالميّ (براغماتيةً أو تقيةً) مع “جهاديةٍ” بمقاييس واعتباراتٍ محليةٍ أساساً، بما يجعلها أكثر استيعاباً لفاعليات الانتفاضة ضد النظام السوريّ. وقد وصل التحول الإخوانيّ للأحرار حدّاً جعل المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، محمد حكمت وليد، يقول بوجود “قواسم مشتركةٍ بين الجماعة والحركة، ما يجعلها أرضاً خصبة لتعاونٍ كبير، وفرصةً لخلق التكامل بين السياسيّ والعسكريّ” ([5])، وقد شاع حينها الحديث عن اندماجٍ بين الأحرار والإخوان. غير أن الأحرار لم يعلقوا لا على العرض الإخوانيّ ولا على إشاعات الإندماج، ما دفع المكتب الإعلاميّ للإخوان إلى نفي العرض واعتبار أن المراقب العام كان يتحدث عن “رؤيةٍ للتكامل ما بين السياسيّ والعسكريّ، وما بين الجماعة وبقيّة الفصائل على اختلافها وتنوّعها، ولم يقتصر الحديث على فصيلٍ محدّد”.
 الابتعاد عن النهج القاعديّ
تقول حركة أحرار الشام الإسلامية عن نفسها، في 24/8/2015، إنها “حركةٌ إسلاميةٌ سوريةٌ أصيلة، انبثقت من الشعب السوريّ للدفاع عنه وعن مصالحه وهويته[6] (…) وتعتمد الحركة في بنائها الأساسيّ والقياديّ على أبناء الشعب السوريّ، وليست لها علاقةٌ تنظيميةٌ بأيّ أطرافٍ خارجيةٍ بما فيها تنظيم القاعدة”([7]). وبكلام أبو عبد الله الحموي، زعيم أحرار الشام الذي قضى في حادثة رام حمدان: “إن أحرار الشام ليست قاعدة ولا إخوان ولا حزب تحرير ولا حتى تتبع للجيش الحرّ“.([8])
 على أن النموّ السريع الذي تميّزت به الحركة، والإنجازات العسكرية التي حققتها خلال فترةٍ قياسية، تثير السؤال، وتبرّر قول بعضهم بأنها واجهةٌ “معتدلةٌ” لتنظيم القاعدة، أو إنها إحدى جماعات تنظيم القاعدة غير الرسمية، مستندين إلى أنها تأسّست بمباركة ومشاركة مندوب الظواهريّ إلى سوريا أبي خالد السوريّ، الذي اغتيل في تفجيرٍ في حلب في (شباط/فبراير 2014) على يد انتحاريين من داعش حسبما هو شائع. كما يستندون إلى أن الظواهري سبق أن وضع، في تسجيلٍ صوتيٍّ له، قائد أحرار الشام، حسان عبود (أبو عبد الله الحموي) في المرتبة نفسها مع أبي محمد الجولاني وأبي بكر البغدادي([9]). والحقّ أنه لا يخلو الأمر من مستنداتٍ لهذا القول، فالحركة كانت في علاقةٍ مميزةٍ وتحالفاتٍ متكرّرةٍ مع جبهة النصرة كما هو معلوم([10])، وتعاونت الحركة مع داعش في إدارة معبر تل أبيض على الحدود مع تركيا. وبحسب رواية قائد كتائب فاروق الرقة محمد الضاهر “أبو عزام”، استولت داعش على المعبر من كتائب الفاروق بالقوّة وسلمته إلى أحرار الشام بشكلٍ جزئيٍّ ليصبح الطرفان مسؤولين عن المعبر([11]).
لكن، بعيداً عن التحليلات الظنية التي تذهب عكس ما تصرّح به الحركة عن نفسها، تميّزت أحرار الشام عن القاعدة عسكرياً باعتمادها العنصر السوريّ أساساً، وزاد اعتمادها عليه مع الوقت (ولهذا، بلا شك، بعده السياسيّ والفكريّ). ومن الواضح أن الحركة استفادت في البداية من الخبرة العسكرية المتراكمة من الجهاد في العراق وأفغانستان لدى بعض من انخرط فيها وكان بينهم أجانب([12])، فقامت بعملياتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ لافتة، شدّت إليها الأنظار وفتحت لها منابع التمويل. وتميّزت الحركة بالاعتماد الكبير على العبوات الناسفة ذات الفعالية، وهي الطريقة التي جرى نقلها من خبرة الجهاد في العراق، وزوّدت الحركة تشكيلاتٍ عسكريةً أخرى بها، كما يرد في فيلم الجزيرة الآنف الذكر. ويلفت النظر، من الناحية العسكرية، أن الحركة لا تعتمد العمليات الانتحارية (أو على الأقلّ لا تجاهر بها)، وهي تسمّي هذه العمليات انتحاريةً وليس استشهادية، ما ينطوي على بعدٍ شرعيٍّ مختلفٍ عن شرع تنظيم القاعدة.
حافظت أحرار الشام الإسلامية على مسافةٍ سياسيةٍ لها عن تنظيم القاعدة، فهي تؤكّد على سوريتها وتبتعد عن النهج الأمميّ الإسلاميّ في رهن سوريا لسياق جهادٍ عالميّ، فتنظر إلى سوريا كوطنٍ وتعتبر من مهامها “إنشاء جيشٍ وطنيّ” (وليس إسلامياً)([13])، ولا تعتمد المظهر الأفغانيّ في اللباس، ولا تضع شعاراتها في الجوامع، وتحترم مظهر وعادات ونمط عيش الأهالي، وهي في هذا أقرب إلى الإخوان المسلمين. فضلاً عن أن غالبية “أحرار الشام” يمتلكون اعتباراً ملحوظاً تجاه روح العصر في مظهرهم وممارساتهم.
ثمة في الفكر القاعديّ إدارة ظهرٍ واضحةٌ للعالم، بكلّ معاييره وتوافقاته وسياساته. إما أن يكون العالم على صورتنا أو نحاربه حتى يصبح كذلك. هذه الثنائية، التي تقسم العالم إلى “فسطاطين”، تضع التنظيمات القاعدية في مواجهة العالم ككلّ، فلا مجال للمفاضلة بين الدول في درجة السوء، تماماً كما لا توجد منزلةٌ بين الكفر والإيمان. وفي حين يشكّل هذا الاعتبار القصوويّ إغراءً للقلوب المعذبة التي تشدها الإطلاقيات، وهذا أحد جوانب جاذبية التنظيمات القاعدية للجيل الشاب، فإن هذا الاختزال الشديد يحكم على التنظيمات القاعدية بالعزلة التامة والفشل الأكيد في النهاية.
ابتعد تنظيم أحرار الشام في سوريا عن النهج القاعديّ، وحرمه هذا الابتعاد من الجاذبية المذكورة، وتركه تحت ضغط المزايدة الجهادية الإسلامية المستمرّة، ولكنه أعطاه امتيازاً أهمّ جعله يحوز مقبوليةً أكبر لدى المجتمع الدوليّ، وهذا ما شهدناه في نجاته من التصنيف ضمن التنظيمات الإرهابية، وفي دعوته إلى مؤتمر المعارضة السورية في الرياض (كانون الأول/ديسمبر 2015)، وقبوله كشريكٍ في مفاوضات التسوية في جنيف. ولا يخفى على المتابع أن بيان انسحاب الحركة من مؤتمر الرياض “بسبب ضعف تمثيل الفصائل المجاهدة، ووجود شخصياتٍ لا يخفى انتماؤها للنظام السوري”([14])، ثم عدول الحركة عن الانسحاب وتوقيعها البيان الختاميّ، جاء تحت تأثير قوّتي الشدّ المذكورتين آنفاً على حركة أحرار الشام التي واظبت على محاولة إمساك العصا من المنتصف.
 فضلاً عما سبق، حافظت حركة “أحرار الشام” على مسافةٍ تنظيميةٍ وفكريةٍ عن الجيش الحرّ، فهي لم تلتزم علم الاستقلال الذي بدأ ظهوره في المظاهرات المناهضة للنظام منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2011، تماماً كما لم تلتزم علم القاعدة. ورغم أن أحرار الشام قبلوا أن تُنسب العمليات العسكرية التي كانوا يقومون بها إلى الجيش الحرّ في نشرات أخبار قناة الجزيرة، إلا أنهم في الواقع كانوا أقرب إلى القاعدة خلال معظم جولات الصراع. وقد اتخذت الحركة موقف المتفرّج من عمليات التصفية التي تعرّضت لها كتائب تنسب نفسها إلى الجيش الحرّ على يد جبهة النصرة التي كانت تتجاوز التسويات والمصالحات التي ضمنتها أحرار الشام. جرى ذلك في تصفية النصرة لجبهة ثوار سوريا، إذ وقف أحرار الشام على الحياد، وفي الهجمة المماثلة للنصرة على حركة حزم، والتي لم تتوقف رغم اتفاق الهدنة الذي رعته الحركة وعجزت عن إلزام النصرة باحترامه، حتى أعلنت “حزم” حلّ نفسها مطلع آذار/مارس 2015.
يذكّر سلوك أحرار الشام هذا بسلوكها خلال صراع الفصائل في الرقة غداة إخراج النظام منها. ففي دراسة “الرقة: من عباءة الأسد إلى سيف الدولة الإسلامية” يقول الكاتب: “كان هناك نوعٌ من التواطؤ الصامت بين أحرار الشام والنصرة، حيث تركت أحرارُ الشام النصرةَ، ولاحقاً الدولة، تظهر بمظهر الأخ الشرير لتظهر هي رحيمة أمام تشدد الآخرين”.[15]
مسعىً مضطربٌ للحفاظ على التمايز
 كانت كتائب أحرار الشام من أوائل التشكيلات التي حملت السلاح (أيار/مايو 2011) بحسب زعيمها حسّان عبود الملقب بأبي عبد الله الحموي([16])، ولكن دون الإعلان عن نفسها حتى (تشرين الثاني/نوفمبر 2011). وهذا يفسر توفر الحركة (اندماج أربع جماعاتٍ هي جماعة الطليعة الإسلامية، وحركة الفجر الإسلامية، وكتائب الإيمان المقاتلة، وكتائب أحرار الشام) على حوالي 25 ألف مقاتل (الغالب أن الرقم مبالغٌ فيه درجاً على عادة الفصائل في المبالغة في أعدادها) عند إعلان التأسيس([17]). وينسجم هذا القول أيضاً مع قناعةٍ عبّر عنها أحد مؤسّسي الحركة الملقب أبو يزن الشامي (محمد الشامي)، وهي أن النظام السوريّ لا يمكن أن يرحل إلا بالعنف، وأن التريث في استعمال السلاح في فترة المظاهرات السلمية كان الغرض منه أن يقتنع الناس بأنفسهم أن السبيل السلميّ مع هذا النظام لا أفق له للنجاح([18]).
وفي حين كانت التشكيلات العسكرية التي راحت تتشكّل، بعد حوالي ستة أشهرٍ من انطلاق الثورة السورية، تنضوي، ولو بالتسمية، تحت اسم الجيش الحرّ؛ فإن أحرار الشام كان التشكيل الأول الذي سبق في تشكّله نشوء ظاهرة الجيش الحرّ، ورفض الانضواء تحت هذا الاسم، مع قبول أن تنسب العمليات العسكرية التي كان يقوم بها إلى الجيش الحرّ إعلامياً، كما أسلفنا.([19])
وقد شارك الأشخاص الذين سيصبحون في ما بعد قادة تشكيلاتٍ عسكريةٍ في حركة أحرار الشام الإسلامية، في المظاهرات في المرحلة السلمية من الثورة. وحين عادت المظاهرات، بعد صمود الهدنة في سوريا منذ (27 شباط/فبراير 2016)، تمايز موقف أحرار الشام عن موقف جبهة النصرة. ففي حين عملت النصرة على تفريق مظاهرةٍ في معرة النعمان في إدلب ومنعت رفع علم الثورة، أيدت حركة أحرار الشام المظاهرات ورفع علم الثورة، ما أثار خلافاً مع الجبهة. واعتبرت أحرار الشام أن لا تعارض بين راية التوحيد وراية الثورة، وأن “من أهان العلم الذي اختاره شعبنا المسلم فقد عرّض نفسه للإهانة”.([20])
بين موجة المظاهرات السلمية في بداية الثورة وموجة المظاهرات الثانية اليوم، شهدت حركة أحرار الشام تبدلاً فكرياً سياسياً قاد من المطالبة ب”أن يكون الدين الإسلاميّ السنّي دين الدولة والمصدر الوحيد للتشريع”، كما جاء في ميثاق الجبهة الإسلامية التي تشكلت أواخر (2013) وتولت حركة أحرار الشام قيادة المكتب السياسيّ فيها، إلى “نحن نؤمن أن سورية تحتاج إلى مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ لا يمكن أن تتحكّم به أو تنجزه جهةٌ أو جماعةٌ واحدة، ولا يجب أن يرتبط الحل بإيديولوجيا واحدة”، كما جاء في مقالة مدير مكتب العلاقات الخارجية للحركة، لبيب نحاس، والتي نشرتها الواشنطن بوست (10 تموز/يوليو 2015).([21])
 الحقّ أن الكثير من قيادات أحرار الشام امتاز بالقابلية للتطوّر ونقد الذات، وهذا ما جعل الخطّ العامّ لمسار الحركة تطوّرياً، من منظور الثورة السورية، يبتعد أكثر عن السلفية الجهادية، حتى عن النسخة المحلية منها، ليتجه إلى فهمٍ إسلاميٍّ أكثر اعتدالاً. من اللافت مثلاً اعتذار أبو يزن الشاميّ عن سلفيته مخاطباً أهل الشام: “نعتذر لكم لأننا أدخلناكم في معارك دنكوشوتية أنتم في غنى عنها، وأعتذر عن تمايزي عنكم وانغلاقي الفكري، بحجة أنني من السلفية الجهادية“.([22]) ويقول: “أنا كنت سلفياً جهادياً، وحُبست على هذه التهمة، واليوم أستغفر الله وأتوب إليه”.([23])
ولكن ما تقدّم لا ينفي الحديث عن وجود ثلاثة تياراتٍ داخل الحركة، يقف على رأس التيار المعتدّل زعيمها الحاليّ “أبو يحيى الحموي” ومعه لبيب نحاس، وهو يدعو إلى التخلي عن الهوية السلفية والتعاون مع المجتمع الدوليّ. وعلى رأس التيار المتشدّد (القريب من النصرة) يقف القائد العسكريّ العامّ “أبو صالح طحان” والشرعيّ العام للحركة “أبو محمد الصادق”، الذي رفض الهدنة التي فرضت في (27 شباط/فبراير 2016)، تضامناً مع جبهة النصرة التي استثنيت منها، معتبراً أن مواصلة القتال واجبٌ دينيٌّ حتى قيام “الدولة الإسلامية“. وفي اتجاه التضامن مع النصرة يأتي أيضاً تصريح الطحان: “لئن تزهق أنفسنا جميعاً خير لنا من أن نسلم أخاً نصرنا حين عز النصير”([24]). وتيار الوسط الذي يمثله أبو جابر الشيخ الذي يحاول منع التصادم والحفاظ على وحدة الحركة.
ولئن كان “اعتدال” الأحرار من الأسباب التي قرّبتهم إلى الجمهور الثائر، فإن من طبيعة الجهاد الإسلاميّ أن باب الغلوّ فيه مفتوحٌ على الدوام، وليس من السهل أن يصمد المعتدلون أمام جاذبيته، ولا سيما إذا بدا الظلم مستحكماً، وقيّض للغلوّ أن يمتلك القدرات المادية. الأمر الذي يمكن أن يفسّر هزيمة الحركة أمام الدولة الإسلامية (داعش) في الرقة، ووجودٍ دائمٍ لتيار “نصراويٍّ” داخلها. ففي الرقة هزمت الحركة على يد داعش لأن مقاتلي الأحرار رفضوا، بسبب اعتدالهم وضعف استلابهم الأيديولوجي للحركة، قتال من يرفعون راية الإسلام.([25]) وفي الحسكة والرقة ودير الزور بايع الكثير من مقاتلي الأحرار داعش، إلى جانب الكثير من مقاتلي النصرة أيضاً. ففي الجهاد تكثر المزايدات وتزداد القوة المعنوية للتنظيم كلما زاد في الغلوّ.
بعد أن وقّع الأحرار ميثاق الشرف الثوريّ الذي يضمن احترام حقوق الإنسان في إطار دولة العدل والقانون والحرّيات، فضلاً عن التمسّك بالنسيج السوريّ الاجتماعيّ المتنوّع بكافة أطيافه العرقية والطائفية، مع ترك مرجعية تحديد نمط الحكم بعد سقوط النظام للشعب السوريّ([26])؛ اتهمت النصرة الموقّعين بأنهم غلّبوا “روح الوطنية وروح المواطنة والانتماء إلى التراب والوطن على الأخوّة الإيمانية”، مما اضطرّ حسان عبود إلى الردّ بتغريدةٍ على تويتر: “إن قيام دولة إسلامية عادلة راشدة هو هدف استراتيجي غائي عندنا. ومن زعم أننا فتنّا في ديننا وبعنا ذممنا بعرضٍ من الدنيا فهذه دعدشة نعرفها من أخرق”.([27])
الدائرة الإسلامية المغلقة
ظلّ ما أشرنا إليه من تحوّلٍ في مسار حركة أحرار الشام ضمن الدائرة الإسلامية وما تتيحه. فتحت تأثير التحوّلات التي شهدها مسار الحراك السوريّ نفسه، سواء تحولاته الداخلية أو تحولات المشهد الدوليّ من حوله، ابتعدت الحركة عن الجهادية العالمية لصالح صيغةٍ إسلاميةٍ أكثر قابليةً لاستيعاب روح العصر. ولكنها، كحركةٍ إسلاميةٍ، تبقى رهينة محبسها الخاص. فحسان عبود، زعيم الحركة الذي ينظر إليه على أنه قطب الاعتدال فيها، وتذهب تحليلاتٌ إلى أنه كان العقبة في وجه سيطرة جبهة النصرة على ريف إدلب، حتى أن هناك من شكّك في أن تكون النصرة وراء مقتله مع زملائه؛ يؤكّد “على ضرورة التعايش بين أبناء الوطن الواحد مهما اختلفت مشاربهم وعقائدهم، ويترتب على ذلك حقوقٌ وواجباتٌ متبادلة، وتجعل أصل حرمة الدماء والأموال والأعراض مشتركاً بين الجميع”، ولا مساس بشيءٍ من هذا إلا وفق “أحكام الشريعة الإسلامية”، وهذا ينتهي بالفعل إلى تكريس ذميةٍ مواطنيةٍ وسياسية.([28])
في مسعى الحركة لتقديم نفسها بصورةٍ مقبولةٍ للغرب([29]) يكتب لبيب نحاس في الواشنطن بوست الأميركية (10 تموز/يوليو 2015): “نعتبر أنفسنا جماعةً إسلاميةً سنّيةً نقاتل من أجل تحقيق العدالة للشعب السوريّ”. هذا الجمع بين ما لا يُجمع هو ما يميّز “الإسلام المعتدل”؛ الجمع بين فئوية الحركة “سنّية” وبين “تحقيق العدالة للشعب”.
وفي مقالٍ آخر لنحاس في التلغراف البريطانية (21 تموز/يوليو 2015) يكتب، ضمن المسعى التقاربيّ مع الغرب: “نحتاج بديلاً سنّياً في سوريا يحلّ محلّ النظام وداعش”. تلك هي المعضلة الإسلامية التي نسمّيها “الدائرة المغلقة”، ذلك أن الإسلامية لا تنفتح على الوطنية أو لا تتواءم معها، فهما ولاءان غير متطابقين، إعلاء أحدهما سيكون بالضرورة على حساب الآخر. من الصعب أن يتحوّل أحرار الشام إلى تنظيمٍ وطنيّ، كما يصعب على حزب الله في لبنان أن يتحوّل إلى حزبٍ وطنيٍّ رغم كل إنجازاته “الوطنية”.
خاتمة
دافع المقال عن فرضيةٍ تقول إن جمع حركة الأحرار بين “إخوانيةٍ” سياسيةٍ و”جهاديةٍ” عسكريةٍ هو ما أتاح لها التميّز وجعلها رهاناً واعداً لداعمين إقليميين شكلوا سنداً مادياً ومعنوياً لها. ولا شكّ أن ميل الأحرار باتجاه الإخوانية السياسية (صيغةٌ إسلاميةٌ تقبل الانفتاح على الغرب) من شأنه أن يضعف جاذبية الحركة وروحها القتالية، لأنه يخفّف شحنة العدائية تجاه العالم، فليس غريباً أن الإسلاميين الأكثر تطرّفاً هم الأكثر شعبيةً بين المقاتلين “المجاهدين”.
رصدت المقالة أيضاً تحرّك الأحرار، تحت تأثير معطياتٍ داخليةٍ ودولية، على خطٍّ سياسيٍّ إسلاميٍّ عامٍّ يبتعد بهم عن السلفية الجهادية ويقترب بهم من الإخوانية. مع ملاحظة وقوع الحركات الإسلامية جملةً في إسار دائرةٍ مغلقة، يصعب الخروج من قيدها إلا بالخروج منها إلى دائرةٍ وطنيةٍ منفتحةٍ لا تحنّط هوية المجتمع، فتخنقه من حيث تظن أنها تحميه وتحافظ على هويته.
 -[1]في دراسةٍ صادرةٍ عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، بعنوان “أحرار الشام بعد عام طويل”، في 30 أيلول/سبتمبر 2015، يتناول الباحث أحمد أبازيد تاريخ حركة أحرار الشام خلال سنةٍ من مصرع قادتها. وتظهر الدراسة قدرةً لافتةً للحركة على امتصاص الصدمة واختيار قيادةٍ بديلة، في وقتٍ نعت فيه كتاباتٌ عديدةٌ الحركة واعتبرت حادثة رام حمدان بمثابة ضربةٍ قاضية.
[2]– من المعروف أن الحركة تتخذ من تركيا مقرّاً لمكاتبها، وتتحكم بمعبر باب الهوى على الحدود التركية السورية. ومن مؤشرات العلاقة المميزة بين الحركة وتركيا قبول الحركة بحقّ تركيا في التدخل شمال سوريا لمنع نشوء دولةٍ كردية، وإعلان الحركة استعدادها لمساعدة تركيا في حماية أمنها ومستقبلها، رغم ما جلبه لها هذا الموقف من انتقادٍ حادٍّ من جبهة النصرة واعتبارها جماعة الأحرار “عملاء الخارج، ورسل المرتدين” وصولاً إلى التكفير.
http://www.turkpress.co/node/10380
 [3]– معهد كارنيغي، “الصراع من أجل التكيف، http://goo.gl/FjSIgw
 [4] – معهد كارنيغي، “الصراع من أجل التكيف”، المصدر السابق: حتى بعد أن حسم الإخوان المسلمون أمرهم في آذار/مارس 2012 بدعم العمل المسلح ضد النظام السوري، وتشكيل ما أطلق عليه “هيئة دروع الثورة”، ظلت الجماعة تتنكر لها. وبعد أن أعلن ملهم الدروبي، في آب/أغسطس 2012، أن الجماعة قد شكلت وحداتها المسلحة، سارع المراقب العام للجماعة رياض الشقفة إلى إنكار هذا ببيانٍ رسميّ، قائلاً إننا ندعم المعارضة المسلحة ولكن “هذا لا يعني أن لدينا وحداتٌ خاصّةٌ بجماعة الإخوان”.
[5]– موقع عربي 21، “إخوان” سوريا يعلنون عن رغبتهم التكامل مع “أحرار الشام، http://goo.gl/htQywP
-[6] تبقى قضية “الهوية” النقطة الجامعة لدى شتى صنوف التيارات الإسلامية التي ترى الهوية معطىً منتهياً تجب صيانته، وليست عمليةً تطوريةً منفتحةً على الاغتناء والتفاعل. في ميثاق الجبهة الإسلامية السورية، التي كانت كتائب أحرار الشام أهمّ مؤسسيها، يأتي هدف “المحافظة على الهوية الإسلامية في المجتمع” في الترتيب الثالث، بعد إسقاط النظام وتمكين الدين في الفرد والمجتمع والدولة. ويلفت النظر حرص الميثاق على إضافة صفة “حضاريّ” إلى المجتمع الإسلاميّ الذي تصبو إليه الجبهة، دون أن يدرك القارئ المحتوى المقصود من هذه الصفة.
–[7] أحرار الشام بعد عام طويل (الملحق1)، مصدر مذكور سابقاً.
[8]– موقع عربي 21، فيلم وثائقي ل”لجزيرة” عن “أحرار الشام” )فيديو(
http://goo.gl/GY1cqO
 [9]– قناة المنار، زلزال رام حمدان يقضي على “أحرار الشام”… نهاية حلم الظواهري في سوريا، http://goo.gl/Vc5UX4
 [10]– عدا عن العلميات العسكرية المشتركة الكثيرة، وأهمها عملية السيطرة على معسكري الحامدية ووادي الضيف، وعن التحالف ضمن “جيش الفتح”؛ جمع جبهة النصرة وأحرار الشام موقف رفض “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية” والتوافق على “تأسيس دولةٍ إسلاميةٍ عادلة”، ما أسهم في زعزعة شرعية الائتلاف بوصفه الممثل السياسيّ للثورة في الخارج.
[11] – أورينت نت. حرب المعابر: معارك بين مقاتلي الدولة الإسلامية وكتائب الفاروق. http://www.orient-news.net/ar/news_show/4229
في كلّ حال، لم يكن للحركة موقفٌ حديٌّ من داعش. إذ يكتفي بيانٌ صدر عن الحركة في 11/8/2015 بشأن المنطقة الآمنة في شمال سورية، بوصف جرائم داعش في حقّ الثورة ب”الحماقات”. ويقول أحد مقاتلي أحرار الشام بعد تحوّله إلى لاجئٍ في أقجة قلعة (تركيا) عقب هزيمة الحركة أمام داعش في تل أبيض (وهو من أبناء تل أبيض): “كان من الممكن أن نهزم داعش، لكن قادتنا كان لهم سياسة أخرى”، متهماً قادته ب”الخيانة”: “كانوا يصدرون أوامر بالانسحاب دون الاشتباك مع داعش. في البداية رفضنا إطاعة تلك الأوامر، لكننا حوصرنا في النهاية واضطررنا للانسحاب”.
http://www.alwasatnews.com/news/886260.html
 [12] – حازم السيد، “السلفية الريفية الصاعدة في سوريا: حركة أحرار الشام الإسلامية نموذجاً”، مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية: “يتضمن موقع الحركة تبويباً خاصاً بالشهداء نشرت فيه صوراً لشهداء أجانب من الحركة، ولم تبد الحركة امتعاضاً من هؤلاء المقاتلين في أي يوم، ولكنها لم تعمل على التحول إلى بؤرة لاستقطابهم تحسباً للضريبة الإعلامية والسياسية التي يمكن أن تلحق بالحركة بسبب وجودهم”. http://goo.gl/C6A9gl
[13] – على أن التعارض المتأصّل بين صفتي الوطنية والإسلامية يحيل الكلام عن جيشٍ وطنيٍّ على لسان الإسلاميين إلى نوعٍ من التورية.
[14] – بيان انسحاب حركة أحرار الشام من مؤتمر الرياض
http://goo.gl/dIO3wY
 [15] – خلف علي الخلف، “الرقة: من عباءة الأسد إلى سيف الدولة الإسلامية”، مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية
http://drsc-sy.org/wp-content/uploads/2015/07/KHALAF.pdf
 [16] – مقابلة قائد أحرار الشام مع تيسير علوني، https://www.youtube.com/watch?v=GRPb4nFU2UA
 [17] – حركة أحرار الشام الإسلامية: المكوّنات والنشأة، http://goo.gl/zwdwx6
 [18] – فيلم الجزيرة عن أحرار الشام، مصدر سابق.
[19] – ترجّح أن تكون موافقة الحركة على هذا جاءت تحت ضغط الرعاية القطرية بغرض المحافظة على زخم الثورة بتضخيم فاعلية الجيش الحرّ الذي كان يحوز على قبولٍ شعبيٍّ واسع، والاطمئنان، في الوقت نفسه، إلى أن طبيعة القوة الحقيقة على الأرض هي “إسلامية قطرية” إن صحّ القول.
[20] – كلامٌ لعضو شورى أحرار الشام أبو عزام الأنصاري. ويتابع الأنصاري قائلاً: “قرر ثوارنا الذين خرجوا من المساجد رفع علم ثورتنا، وحاكته حرائرنا بأياديهنّ الطاهرة، وكفّنّا به شهداءنا. ونقول للمزاودين: ليس لأحدٍ في هذه الثورة منّةٌ على أحد، فإن كان ولا بدّ فلعوام المسلمين فضلٌ علينا، ولهم منا واجب النصرة والاحترام والتقدير”.
http://www.newscenter.news/ar/news/view/15365.html
 [21] – يعجز السيد لبيب نحاس أن يواظب على هذه اللغة، فهو يقترح على أميركا، في المقال نفسه، أن تكون أحرار الشام هي “البديل السنّي المحليّ”.
[22] – الدرر الشامية. أبو يزن الشامي يعتذر لأهل الشام ومجاهديها ويوجه رسالةً إلى المقدسي والمحيسني.
http://eldorar.com/node/58862
 [23] – من صفحة دمشق الآن على الفيسبوك. https://www.facebook.com/Damascus.Now1/posts/543344559130112
 [24] – عمر كايد، “هدنة سورية تفجّر خلافاتٍ بين أحرار الشام وتهدّد جيش الفتح بالتفكك”، الحياة 11 آذار/مارس 2016.
[25] – فيلم للجزيرة عن أحرار الشام، مذكور سابقاً. وذكرنا أعلاه أن هناك مقاتلين من أحرار الشام يتهمون قياداتهم بالتخاذل أمام داعش. النتيجة واحدة أكان الضعف النفسيّ أمام داعش من القادة أم من المقاتلين.
[26] – مركز الشرق العربي، ميثاق الشرف الثوريّ: بنوده وبعض ردود الفعل عليه. http://goo.gl/v7prx9
 [27] – فادي الداهوك، ربطات عنق أحرار الشام. المدن. http://goo.gl/QOkqQP
 [28] – السلفية الريفية الصاعدة في سوريا: حركة أحرار الشام الإسلامية نموذجاً، مذكور سابقاً.
[29] – وهذا مؤشرٌ صريحٌ على نزوعٍ براغماتيٍّ كانت تفتقده الحركة حين قام المبعوث الأميركيّ إلى سوريا “روبرت فورد”، في 18 كانون الأول/ديسمبر 2013، بالاجتماع مع الجبهة الإسلامية وأعلنت رفض الحوار مع الولايات المتحدة الأميركية