الرئيسة \  مشاركات  \  قراءةٌ في القوانين الناظمة للمجتمعات

قراءةٌ في القوانين الناظمة للمجتمعات

30.01.2016
د. محمد عادل شوك




( تأتي هذه القراءة في ظلّ تنامي الدعوات لفصائل الثورة، للتفكير بمنطق الدولة، و ليس بمنطق المجموعات المسلحة )

إذا قُدِّر لنهر أن يجري في أرض طيبة؛ فسيروي منها آلاف الهكتارات،وتصبح سلّة غذاء للناس،و أمّا إذا جرى في أخرى سبخة؛ فإنّه لن ينفعهم بشيء، وستذهب مياهه هدرًا.
هذه واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق أيضًا على المجتمع البشري، فالمجتمع يمتلك طاقات هائلة؛ فإذا وُظِفَت بشكل سليم كانت رافدًا مهمًا في عجلة التنمية، وبغير ذلك تكون عبثًا، و فسادًا.
فالمجتمعات يتوقف تقدُّمها على قوانين وأنظمة ذاتية كثيرة نسمّيها ( ديناميكية المجتمع )، تتمثل في قيامها على القِيَم الصحيحة، والعمل الصالح؛ الأمر الذي يجعلها تسير في الاتجاه الصحيح، و العكس أيضًا صحيح.
هذه القوانين لم تكن غائبة عن أسلافنا من العرب، و المسلمين، و لعلَّ فيما  تذكره  المصادر عن رسالة علي رضي الله عنه، إلى مالك بن الأشتر لمّا ولاّه مصر، ما يوضّح لنا هذه الديناميكية.
: «واعلَمْ أنّ الرعيّة طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها: جنود الله. ومنها: كتّاب العامّة والخاصّة. ومنها: قضاة العدل. ومنها: عمّال الإنصاف والرّفق. ومنها: أهل الجزية والخراج من أهل الذّمة ومُسْلِمَةُ الناس. ومنها: التجّار وأهل الصناعات. ومنها: الطبقة السُّفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. وكلٌّ قد سمّى الله له سهمه (نصيبه من الحق)، ووضع على حدِّه فريضة في كتابه، أو سُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، عهدًا منه عندنا محفوظًا.
فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعِزُّ الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، و لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخَراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصِّنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب، لما يُحكمون من المَعاقد ( يقومون بتنظيم العقود) ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها.
ولا قوام لهم جميعًا إلَّا بالتجّار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم (المنافع التي يجتمعون من أجلها)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفُّق (التكسُّب) بأيديهم ما لا يبلغه رِفقُ غيرهم.
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمَسكنة الذين يحق رَفدهم (مساعدتهم، وصِلَتهم) ومعونتهم، وفي الله لكلٍّ سعة، ولكلٍّ على الوالي حق بقدر ما يصلحه».[ نهج البلاغة: الرسالة 53 ]
إن قراءةً متأنيّة في هذه الرسالة لتشير إلى أنّ ثمّة عددًا من القوانين الناظمة، من الضروري أن تتوفّر  لبناء المجتمعات، منها:
- التفاضل بالسعي.
إنَّ المجتمع يتكوّن من طبقات تقوم على هذين الأمرين:
1 الأسس السليمة، وهي: العلم والخبرة والكفاءة والقدرة البدنية، وغيرها.
2المساواة، و ترك العصبية: فأفراد المجتمع متساوون في الإنسانية، وسواسية أمام القانون والقضاء، بعيدًا عن الطبقية البغيضة التي تقوم على أساس العنصر والدم، أو الثروة والمال، أو المنصب والمركز الاجتماعي، أو على أسس قبلية وطائفية وعائلية، وغير ذلك.
- التعاون.
فالطبقات التي تشكل جسم المجتمع، غير منغلقة على ذاتها، بل تنفتح على بعضها بالتعاون المثمر البنّاء، فيكمل بعضها بعضًا، فلا غنى لواحدة عن الأخرى، كما أنّ علاقتها مبنية على أسس المحبة والاحترام المتبادل.
- العدالة
إنّها أهم ركيزة يقوم عليها المجتمع الحيوي السليم، إذْ ينبغي أن تكون العدالة شاملة الجميع، حاكمًا ومحكومًا، غنيًا وفقيرًا، قويًا وضعيفًا، حتى تؤتي ثمارها،و فقدانها له تأثير هدّام مزدوج، فهو ناحية يؤدّي إلى التجرُّؤ على سرقة حقوق الآخرين، والاعتداء عليهم، مثلما يؤدّي إلى تثبيط هِمَم العاملين المنتجين من مزارعين وصناعيين وتجّار وكتّاب ومفكّرين؛ بسبب قلقهم من احتمال اغتصاب وسرقة الآخرين لجهودهم.
- صيانة المجتمع.
لكي يحافظ المجتمع على نفسه من الاعتداء الخارجي، أو الاضطراب والتفسخ الداخلي، لابُدَّ له من ركائز تشكل أساس البناء الاجتماعي، منها:
1 القوة العسكرية: ممثلة في الجيش، والمعدات والذخيرة، و التدريب، و التنظيم، وغيرها.
2 القوة الاقتصادية: ممثلة بالقطاعات الانتاجية والصناعية، في حقول الزراعة والري والرعي والنفط، وغيرها.
3 القوة القضائية:ممثلة بالقضاة، وحكام الشرع، والكتّاب، وغيرهم.
4 القوة الإدارية، والتنفيذية: وهي جهاز الحكومة بما فيه من  وزراء وموظفين، وإداريين.
5 القائد الأعلى، أو الرئيس: ويكون زاهدًا في موقعه عندما يكون خاضعًا للمساءلة من المجالس المنتخبة، في الدول التي فيها هوامش للحرية، و يغدو متسلِطًا في الأخرى.
- التكافل والضمان الاجتماعي.
إن الفقراء والمساكين وذوي الحاجة ممن قعدت بهم كارثة عرضت لهم، أو مرض ألمّ بهم، أو شيخوخة أصابتهم، ينبغي أن يكون لهم مؤسسات تقوم على رعايتهم، و سمِّي عمالها ( عمال الرِّفق والإنصاف ).
بهذه القوانين تضمن المجتمعاتُ الطمأنينةَ لأبنائها؛ فيأمنون على مستقبلهم، و مستقبل من يعولون، وتجعلهم يسعون إلى المزيد من النجاح و العمل، هذا فضلاً على إشاعة أجواء المحبة و التراحُم فيما بينهم.