الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قراءة أولية: العالم العربي وإدارة أميركية غير منتظمة المسار

قراءة أولية: العالم العربي وإدارة أميركية غير منتظمة المسار

11.11.2018
محمد بدرالدين زايد


الحياة
السبت 10/11/2018
جاءت نتائج انتخابات التجديد النصفي الأميركية لتتمشى مع كثير من التحليلات الرصينة التي توقعت نجاح الديموقراطيين في تحقيق أغلبية في مجلس النواب، مع استمرار الجمهوريين في الحفاظ على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ. ومع أنه من السابق لأوانه تقدير النتائج الكاملة لهذه التطورات، فثمة أسباب عدة تكشف أن احتفال دونالد ترامب بالنصر يتسم بدرجة عالية من التبسيط المخل، اللهم إلا من أن الرجل كان يخشى نتائج أسوأ، فضلاً عن أن استمرار السيطرة الجمهورية على مجلس الشيوخ يعد بالقطع نصراً له، ولمواصلة محاولة تنفيذ سياساته خصوصاً الكثير من التعيينات القضائية والديبلوماسية، أما تلك الأسباب التي نراها تكشف أن الأمر معقد، وهذا التعقيد يتجاوز بعض ما ورد في بعض المواقع الإعلامية العربية، من أن ترامب سيواجه تحديات من أغلبية الكونغرس الديموقراطية، وهو ما سنعرضه في هذه القراءة الأولية.
- إن أخطر هذه الأسباب هو أن هذه النتائج تكشف وترسخ من وجود انقسام عميق في المجتمع الأميركي، كان وصول ترامب للحكم خير دليل عليه، ويمكن اختزاله في تعمق الاستقطاب بين تيار اليمين الأميركي المتشدد وما بين انتقال جزء مهم من التيارات الليبرالية الأميركية إلى مزيد من الانفتاح والتقدمية، على حساب تيارات الوسط في كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري. وصول ترامب كما سبق كان أحد أكبر تجليات ذلك، واضطرار عناصر عديدة من المحافظين الوسط إلى التماشي مع هذا التيار عالي الصوت والضجيج، وكان من مظاهره المقلقة أيضاً الحوادث الإرهابية التي شهدتها البلاد قبل الانتخابات من عناصر بيض متشددة في محاولات فاشلة لاستهداف قيادات ديموقراطية، على رأسها أوباما وهيلاري كلينتون، فضلاً عن عدد من الحوادث العنصرية التي استهدفت السود واليهود على السواء، وفي المعسكر الآخر عدد من التطورات الدالة على تحولات عميقة أخرى في بعض مكونات المجتمع الأميركي بوصول أول سيدتين مسلمتين إلى عضوية مجلس النواب، كلاهما رمز لكل ما يحاربه ترامب، فواحدة سمراء من أصول صومالية مهاجرة، والثانية من أصول فلسطينية، كما لا يمكن تجاهل دلالة وصول أول حاكم مثلي ديموقراطي في البلاد. معنى هذا ببساطة أن الانقسام والاستقطاب يتعمق في البلاد بين تياري اليمين المتشدد، والليبرالي الذي يزداد تنوعاً وانفتاحاً، كلاهما يستقي جذوره العميقة من التراث والتاريخ الأميركي، ومثلما نجح الليبرالي بالوصول بأول رئيس ملون في التاريخ الأميركي باراك أوباما، نجح الثاني في استبداله بترامب، ومع تعمق الأستقطاب يضيق تيار الوسط في الحزبين الكبيرين ويتراجع دوره في عملية التوازن والمواءمات التي كانت تحدث عملية الإصلاح والتغيير بشكل متدرج. ولعل الرسائل الهادئة بين ترامب وزعيمة الأغلبية الديموقراطية بيلوسي ربما تعكس إدراكاً متزايداً بمخاطر الاستقطاب المتصاعد والخشية من إمكانية السيطرة عليه، ومن ثم محاولة الجانبين التقاط الأنفاس وتقييم الأمور دون اندفاع، على الأقل في الأجل القصير.
-إن هذه النتائج تعني أيضاً أن الإدارة الحالية لن تصبح بطة عرجاء، وهو التعبير الشائع الذي يطلق على حال الإدارة التي تواجه مؤسسة تشريعية يسيطر عليها الحزب الآخر، فالنصر الديموقراطي يشمل مجلساً واحداً، فضلاً عن أهمية المجلس الأعلى، أي الشيوخ، خصوصاً في كثير من جوانب التعيينات الحكومية والتحركات الخارجية، ولكن فقد مجلس النواب لن يؤدي أيضاً إلى نتائج مريحة لترامب، وستقيد حركته بشكل لن تتضح أبعاده بعد، فإذا لم يصبح بطة عرجاء فلن يسير أيضاً بشكل منتظم، خصوصاً أنه لو تذكرنا أنه مع نجاحه في تنفيذ كثير من وعوده الانتخابية، وغالبيتها سلبي، للعالم كالخروج من اتفاق باريس للمناخ، أو سياسات الهجرة المتشددة، أو فرض الرسوم الجمركية ضد الحلفاء والأصدقاء أو نقل سفارة بلاده للقدس، ولكنه لم يتمكن حتى الآن من إلغاء نظام التأمين الصحي لأوباما، وسيصبح عليه في المستقبل أن يعقد الكثير من الصفقات والمواءمات والتنازلات كي يمرر بعض السياسات الداخلية أو الخارجية، وسيصبح الأمر بالقطع أكثر صعوبة، ما يجعلنا نرى أن سعادته بالقطع مبالغ فيها، وفارغة من المعنى.
-أثارت تعليقات صحافية عدة في الولايات المتحدة توقعات بأن الديموقراطيين سيمارسون ضغوطاً أكبر على إدارة ترامب في ملفات خارجية عدة، على رأسها العلاقات مع روسيا وكوريا الشمالية والسعودية، على أنه فات هذه التوقعات أنه في كل هذه الملفات وغيرها لم يكن الانقسام والتردد في السياسة الأميركية مرتبطاً فقط بتيارات السياسة الأميركية، بل الأخطر أن الانقسام كان ولايزال في داخل مؤسسات الحكم الأميركية المختلفة من الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات حول عدد من القضايا الكبرى في السياسة الخارجية الأميركية وأدواتها، خصوصاً حول قضية كبرى من مستوى التساؤل حول من هو الخصم الرئيسي الاستراتيجي هل هو روسيا بترسانتها النووية والعسكرية، أم هي الصين وكذا الحلفاء التاريخيون في أوروبا واليابان بسبب تضخم قواهم الاقتصادية؟ وألم تكن بعض هذه المؤسسات قد حاولت إحراج ترامب بتسريب بعض المعلومات عندما حاول تطبيق سياسته للتقارب مع روسيا؟
-وفيما يهمنا عربياً أن هذا الانقسام الأميركي داخل المؤسسات يخص كيفية استخدام ملفين أساسيين، هما ملف الإسلام السياسي وملف حقوق الإنسان، كلاهما أداة استخدمتها السياسة الأميركية لتحقيق مصالحها في العالم العربي، وصلت لدرجة عالية من الاستخدام في عصر أوباما مصحوباً معها الكثير من التخبط واضطراب الرؤية، واستمر الانقسام وعدم وضوح الرؤية في عهد ترامب بسبب الانقسام داخل المؤسسات الأميركية، والشاهد الأكبر على ذلك مشكلة قطر ونهج التعامل معها. ومن شأن تكريس الانقسام في الساحة السياسية الأميركية بين تيارات اليمين المتشدد والليبرالي مزيد من الغموض والتردد في التطبيق والممارسة.
-والمؤسف أن ملفاً عربياً واحداً قد لا يتغير أو لا يتأثر على الإطلاق بهذه التطورات وهو الملف الفلسطيني، ففي الماضي كانت مؤسسات الحكم، وعناصر يمين الوسط والشريحة الليبرلية بالغة الضيق المؤيدة للحقوق الفلسطينية تنجح في كبح الاندفاع الأميركي تجاه الإفراط في تأييد إسرائيل، وكان التعبير عن ذلك في تجميد قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، واليوم بعد أن تمت هذه الخطوة بالفعل فإن كلا تياري السياسة الأميركية المتنافسين على الساحة لا يستطيع التراجع عن هذه الخطوة، وإن كان هنا يمكن القول إنه لو تبلور موقف فلسطيني عربي قوي مؤيد من أوساط دولية عديدة رافضة للضغوط الأميركية المتزايدة ضد الشعب الفلسطيني فقد تضطر هذه الإدارة مضطربة السير مستقبلياً إلى تجنب هذا الملف دون أن تتوقف عن إبداء مظاهر العداء للشعب الفلسطيني كلما سنحت الظروف لذلك.
يظل هناك الكثير من التعقيد فيما هو قادم في المستقبل، وموضوع تعقب ترامب ضريبياً ليس أمراً يمكن الاستهانة به، على أن الخوف من شخص كترامب لو تعرض للمزيد من الضغوط الداخلية فإن هذا قد يدفعه إلى مزيد من الابتزاز الخارجي، الأرجح أنه سينال العالم العربي الكثير من هذا الضجيج.