الرئيسة \  تقارير  \  قراءة الواقع العالمي في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا.. لماذا؟!

قراءة الواقع العالمي في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا.. لماذا؟!

14.03.2022
د. سليمان صالح


د. سليمان صالح
الجزيرة مباشر
الاحد 13/3/2022
الدول تحتاج إلى قراءة متعمقة للواقع لتكتشف الفرص التي تساهم في بناء قوتها ومكانتها الدولية، وتفتح لها مجالات جديدة للكفاح لتحقيق أهداف طويلة المدى.
من أهم تلك المجالات بناء تحالفات مع دول تتشابك مصالحها، وتبحث عن أدوار جديدة في النظام العالمي، وتتطلع إلى زيادة قوتها الصلبة والناعمة.
والغزو الروسي لأوكرانيا يؤثر الآن في مواقف الكثير من الدول، وفي علاقاتها مع الشعوب، ويدفعها إلى البحث عن حلفاء جدد لمواجهة آثار هذا الغزو السياسية والاقتصادية.
أين المصالح القومية؟!
قراءة الواقع توضح أن الدول تواجه حالة خوف من إعلان مواقفها الحقيقية، وأنها تفتقد الرؤية الاستراتيجية لمصالحها القومية في ضوء صراع القوى العظمى.
الكثير من الدول لا يفعل شيئًا سوى انتظار نتائج الصراع، دون تفكير أو تخطيط، وربما يكون ذلك من أهم مؤشرات ضعف الدول وفشلها وعدم قدرتها على بناء المستقبل.
الذين يتابعون وسائل الإعلام التابعة للسلطات يدركون أنها لم تقدم فكرة جديدة لتحقيق مصالح الدولة، بالرغم من مبالغة هذه الوسائل في تقديم من تصفهم بالمفكرين الاستراتيجيين، والخبراء الاقتصاديين، والمحللين السياسيين، فالواقع تجاوز الجميع خاصة أولئك الذين ما زالوا يتمسكون بالتبعية لأمريكا ويرون فيها طوق النجاة، وضمان الاستقرار. فهل أصبح الجميع خارج التاريخ والواقع والمستقبل؟ وهل ستدفع الدول ثمن اعتمادها على أنصاف الجهلاء الذين يحلمون باستقرار لا يمكن أن يتحقق في عالم يتغير بسرعة أكبر من خيال النظم التي لا تكف عن الشكوى من زيادة عدد السكان، وعدم قدرتها على توفير الطعام للأفواه الجائعة.
تلك النظم لا يمكن أن تدرك ما يتيحه الواقع من فرص، لأنها لا تملك أهدافًا حقيقية، وترفض العلم ودراسات الجدوى، وتسجن العلماء وتطردهم.
وأمريكا أيضًا عاجزة!
عدم القدرة على القراءة المتعمقة للواقع وإنتاج الأفكار لا يقتصر على النظم السلطوية في ما كان يطلق عليه العالم الثالث، بل إن أمريكا أيضًا أصبحت عاجزة عن التفكير في أساليب جديدة لمواجهة الواقع، وإدارة الصراع.
ربما تكون الفكرة الجديدة هي التي قالها مذيع أمريكي عندما وصف ترمب بوتين بأنه قاتل، فسأله المذيع: وهل أمريكا بريئة؟!!
قد يفتح سؤال هذا المذيع مجالًا جديدًا لأمريكا لمراجعة تاريخها، والاعتذار للشعوب التي ارتكبت جرائم حرب وعمليات إبادة فيها، وبدء مرحلة جديدة لمساندة شعوب تريد أن تنتزع حريتها وتبني نظمها المستقلة.
سؤال المذيع يمكن أيضًا أن يفتح لأمريكا مجالًا جديدًا للتفكير في مواجهة بوتين الذي يقوم ببناء إمبراطوريته باستخدام قوته الصلبة التي ورثها من الاتحاد السوفيتي، ويهدد العالم باستخدام صواريخه النووية.
فهل يمتلك أحد في أمريكا شجاعة هذا المذيع ليقول لبايدن: إنك تساعد بوتين على قهر الشعب السوري وإبادته، وتعمل على إطالة عمر الطاغية بشار الأسد الذي قتل أكثر من مليون مواطن سوري؟!!
هل يمتلك أحد شجاعة هذا المذيع ليوضح لأمريكا حقيقة دورها في قهر شعب فلسطين وتهجيره واغتصاب أرضه؟!!
من أهم الأفكار التي يمكن أن تواجه بها أمريكا جرائم بوتين الدعوة إلى تحقيق السلام العالمي القائم على العدل بإرغام الكيان الصهيوني على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية.
وطالما أن أمريكا لن تجرؤ على ذلك، فإنها ستظل ضعيفة وعاجزة في مواجهة بوتين، فهي لا تستطيع أن ترفع راية الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب، وعدم شرعية العدوان واغتصاب أراضي الشعوب.
لأنها ليست بريئة
إن أمريكا عاجزة عن مواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا لأنها ليست بريئة، وقد ارتكبت من قبل الكثير من جرائم الحرب التي لا تقل خطورة عن الجرائم التي يرتكبها بوتين في أوكرانيا؛ ولذلك فهي عاجزة عن بناء تحالف عالمي لمواجهة روسيا التي قد يغريها الضعف الأمريكي بمواصلة تهديدها لأوربا وتغيير العالم.
إن أمريكا صنعت الوضع الراهن الذي يحقق مصالحها، لكنها لم تدرك أن هذا الوضع لا بد أن يتغير لأنه يقوم على الظلم والطغيان، واستخدام القوة الصلبة في قهر الشعوب. وروسيا استغلت هذا الوضع فقامت بقهر الشعب السوري ومساندة بشار الأسد ليقوم بإبادة شعبه برضا أمريكا وموافقتها ومساندتها، لكن بوتين كان أكثر طموحًا فاستغل الوضع الراهن ليبني إمبراطوريته، وليقوم بغزو أوكرانيا وإسقاط نظامها لتصبح تابعة له، ولم تجرؤ أمريكا على مواجهته، لأن ما يفعله الآن هو عين ما فعلته أمريكا من قبل، وما ساندته ليفعله في سوريا.
لذلك فإن الحل الوحيد أمام أمريكا والسلاح الوحيد الذي يمكن أن تستخدمه هو أن تفكر في تغيير الوضع الراهن بالاعتذار للشعوب التي شنت عدوانا عليها، وبناء عالم أكثر عدالة. لماذا لم تظهر هذه الفكرة حتى الآن في أمريكا؟ وهل يجهل العلماء الأمريكيون أهميتها في إنقاذ أمريكا وأوربا؟
من الناحية الاقتصادية ستكون تلك الفكرة أقل تكلفة بكثير من أزمة اقتصادية عالمية جديدة يراها كل صاحب بصيرة، ففي هذه الأزمة ستذوق كل الشعوب مرارة الفقر بما فيها شعب أمريكا والشعوب الأوربية.
وستكون النتائج الإيجابية لهذه الفكرة أكبر بكثير من الصدام المسلح مع روسيا، الذي يمكن أن يتوسع ليشعل نيران حرب عالمية ثالثة.
وتلك مسؤولية المثقفين والعلماء الذين يجب أن يتجمعوا، وتكون لهم كلمتهم في إدارة الصراع العالمي وتوعية الشعوب بأهمية العدالة في بناء عالم جديد.
إن الأزمة العالمية تزداد خطورة وتهدد الاستقرار العالمي، ومواجهة هذه الأزمة تقوم على إنهاء عصر الاستعمار، وكل الأيديولوجيات التي تشكلت خلاله، واحترام استقلال الدول وسيادتها. لكن هل تقبل أمريكا وأوربا ذلك؟!
توصيف جديد للصراع
إن اكتفاء وسائل الإعلام الأمريكية والأوربية بتطبيق أساليب الدعاية القديمة، ووصف بوتين بأنه مجنون وهتلر وقاتل لا يقدم حلًّا للمشكلة، ولم يعد هذا الخطاب مقنعًا حتى للشعب الأمريكي الخائف والرافض للمشاركة في حروب جديدة.
وهذا الخطاب يمكن أن يثير عواطف الكراهية ضد روسيا وأمريكا وأوربا في نفوس كل الشعوب الفقيرة التي عانت من ظلم هذه الدول الاستعمارية وقسوتها. وهذه الشعوب يمكن أن تجد الكثير من الفرص في هذا الواقع القائم على الصدام بين القوتين العظميين فتكافح لانتزاع استقلالها والفوز بحريتها.
ومن المؤكد أن الصين تحاول استرضاء تلك الشعوب بتقديم نفسها على أنها دولة ليست لها أطماع استعمارية، وأنها تريد التجارة والاستثمار والربح.
وهذا يشكل تحديًا خطيرًا لأمريكا وأوربا، فمن الممكن أن تجد شعوب آسيا وأفريقيا الكثير من الفرص لتقوية اقتصادها عن طريق بناء علاقة شراكة مع الصين.
لكن الصين أيضًا يمكن أن يغريها العجز الأمريكي الذي ظهر بوضوح لاحتلال تايوان، وطرد أمريكا من آسيا.
لذلك تحتاج أمريكا إلى توصيف جديد للصراع، فإدارة الصراع تعتمد على إدراك طبيعته، وقراءة التحديات بوضوح.
علاقات دولية جديدة
العدوان الروسي على أوكرانيا يفرض على أمريكا أن تفكر بشكل جديد في كل علاقاتها الدولية، وأن تتخلّى عن قيادة العالم وإدارة صراعاته.
ومن المؤكد أن الكثير من الدول أصبحت تدرك ذلك، وأنها تحتاج إلى التحرر من التبعية لأمريكا، وبناء علاقات جديدة تحقق مصالحها، وكل الدول لا بد أن تستخدم مراكز البحوث والجامعات لقراءة الواقع، وتحديد مصالحها، وكيف يمكن أن تحققها عن طريق بناء تحالفات جديدة، فأمريكا لن تستطيع أن تحمى أحدًا، والتبعية لأمريكا يمكن أن تكون أكثر تكلفة من الكفاح لتحقيق الاستقلال الشامل وبناء نظم ديمقراطية.
إن القوة الأمريكية قد وصلت إلى ذروتها في نهاية الحرب الباردة، لكن أمريكا لا تستطيع أن تمكث على القمة أكثر من ذلك، فالعدوان الروسي على أوكرانيا أوضح أن أمريكا عملاق ضخم يمتلك قوة صلبة لكنه لم يعد قادرًا على استخدامها بعد هزيمته في أفغانستان، وتزايد كراهية الشعب الأمريكي للدخول في حروب جديدة.
هذه هي بعض ملامح الواقع الذي تحتاج الدول إلى قراءته، لتخطط لاستغلال الفرص في بناء اقتصادها وتحالفاتها مع الدول، وعلاقاتها مع الشعوب.
والشعب الأوكراني الذي يقاوم الغزو الروسي ببطولة يحتاج إلى مساندة الشعوب الفقيرة في أفريقيا وآسيا التي تكافح لتحقيق استقلالها، والتحرر من السيطرة الروسية والأمريكية والأوربية، وهذه المساندة قد تكون أفضل وأكثر فائدة لشعب أوكرانيا من العلاقة مع أمريكا وأوربا، كما أن مساندة هذه الشعوب لأوكرانيا توضح وقوفها بجانب الحق والشرعية والديمقراطية، فروسيا تشن عدوانًا على شعب أوكرانيا لا يختلف عن عدوان أمريكا على شعبي العراق وأفغانستان، ولا يختلف عن العدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين.
المصدر : الجزيرة مباشر