الرئيسة \  تقارير  \  قراءة في كتاب توماس باور “ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام”

قراءة في كتاب توماس باور “ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام”

20.03.2022
إبراهيم مشارة


إبراهيم مشارة – (موقع قنطرة الألماني) 10/1/2022
الغد الاردنية
السبت 19/3/2022
غلاف النسخة العربية لكتاب المستعرب الألماني توماس باور “ثقافة الالتباس – نحو تاريخ آخر للإسلام”.
هذه قراءة في موقف المستعرب الألماني توماس باور، الذي عرضه في كتابه “ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام”. وهو كتاب جاد ورصين يشكل استمرارا للجهد الألماني لمقاربة الإسلام والثقافة العربية منذ الرعيل الأول من عمالقة الاستشراق الذين يرد ذكرهم في المقالة. ويبرز هذا كتاب تنويرية الإسلام وانفتاحه على الآخر، وكيف مكنته هذه السمات من التعايش مع الثقافات الأخرى التي احتك بها فاتحاً، كما كان حاله في الأندلس، أو من موقف التبادل التجاري والمصلحي كما في حالة الشرق الأقصى. ولكن، مع كل ما ينطوي عليه الكتاب من طرح خلاق ورؤية جسورة، فإنه يعاني أيضاً من ثغرات جديرة بالتنويه. لكن الكاتب يستحق الشكر والإشادة على جهوده الفكرية ومنهجيته الموضوعية الصارمة.
* * *
كتاب “ثقافة الالتباس” نقد لأسلمة الإسلام الغربية
كتاب المستعرب الألماني توماس باور “ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام” هو كتاب جاد ورصين، يشكل استمرارا للجهد الألماني الرامي إلى مقاربة الإسلام والثقافة العربية منذ الرعيل الأول من عمالقة الاستشراق. وقد اختط الكاتب لنفسه طريقا مختلفا في مقارباته للفكر الإسلامي والتراث العربي، وحاول أن يقدم إضافات جدية في مقارباته للثقافة العربية وللفكر الإسلامي. وتتسم مقاربته بشيء غير قليل من الروح الموضوعية والبعد عن الرؤية الاستشراقية التي اتسمت بها الدراسات الغربية للإسلام عموماً، والتي كانت محل نقد من قبل المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إدوارد سعيد. وكانت تلك الدراسات والمقاربات تتأسس على أفكار قبلية وخلفيات إيديولوجية ذات طابع استعلائي مركزي وتنطوي على مساع تبشيرية لا تخفى في البعض منها، والتي بررت الهيمنة الغربية وتعاونت معها، بل وكان بعضها خريطة طريق لهذه الهيمنة.
الاستعراب الألماني هو الأكثر قربا من الموضوعية
ربما كان الاستعراب الألماني أكثرها قربا من الموضوعية وروح البحث لأن ألمانيا لم تكن دولة إمبريالية كولنيالية مثل فرنسا وإنجلترا مثلا. وقد اقتسمت هاتان الدولتان العالم العربي برمته بعد تقسيم تركة “الرجل المريض”. وقد عانى العرب الويلات من ذلك الاستعمار وما يزال يعاني من مخلفاته إلى اليوم.
يشكل باور في أطروحاته امتدادا للمدرسة الاستعرابية الألمانية التي كان من رموزها بروكلمان، ويوسف شاخت، وآدم ميتز وسيغريد هونكه، وفلايشر وفلوغل. وهو متميز أكثر بجدية الطرح وفرادة الرؤية. ولا يعني ذلك عدم وجود ثغرات في الاستعراب الألماني وتحيز عند بعض المستعربين، وربما استعلاء غير قليل عند بعضهم الآخر، لكنَّ الطابع العام هو طابع البحث الرصين والرغبة في مقاربة الحقيقة واكتشافها من خلال النصوص العربية الإسلامية والعمران والآثار عامة.
وكان للألمان فضل في تحقيق الكثير من المخطوطات وكنوز الثقافة العربية من الأدب بشعره ونثره ومؤلفات في العلوم الإسلامي، وإخراجها إلى العالم.
كما كان لبحوثهم وتنقيبهم في العمران والآثار ومنهجيتهم الجادة والرصينة فضل في كشف روائع هذا التراث. ولذلك، ليس غريبا طابع الاحتفاء والتقبل الذي يبديه المجتمع الألماني للمسلمين في ألمانيا، وكأن الألمان يطبقون فعليا تلك المقولة الما بعد حداثية، والتي تفيد بأن الهوية تغتني بالآخر بل وتجد معناها في الآخر المختلف. وقد انعكس ذلك على السياسة الألمانية التي تحسن التعامل مع المسلمين المقيمين على أراضيها بصفتهم مواطنين أو مقيمين.
ولا يعني هذا عدم وجد مشاكل مع اليمين المتطرف، على سبيل المثال، ونزعته العدائية، ولكنه يبقى يمينا مدانا من قبل الألمان أنفسهم. هكذا يستلهم الألمان المعاني التي نوه بها أديبهم الكبير غوته في مؤلفه الكبير “الديوان الشرقي”.
يأتي كتاب باور” ثقافة الالتباس: نحو تأريخ آخر للإسلام” ليضيف لبنة جديدة في مقاربة الإسلام، ويحيل العنوان ذاته إلى فكر مغاير ومقاربة مختلفة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن العنوان يشكل عتبة أولى إلى المضمون. ويعني “تأريخ آخر للإسلام” أن هناك تاريخا رسميا أكاديميا للإسلام هو غير ما يقصده الكاتب، وهو التاريخ الذي صاغته الرؤية الاستشراقية الغربية ذات الطابع المركزي.
جاء الكتاب في نسخته العربية ضخما نسبياً، في 478 صفحة، نشرته “دار الجمل” في ألمانيا وبتعريب رضا قطب. وقد انطلق الكاتب من مقولة لعالم فيزياء الكم، ماكس بورن: “أعتقد أن أفكارا مثل الصواب المطلق والدقة المطلقة والحقيقة النهائية… إلخ هي لوثات عقلية لا ينبغي أن تمرر في أي علم… إن هذا التبسيط للتفكير يبدو لي أكبر بركة جلبها لنا العلم الحديث، وقد شكل الاعتقاد بامتلاك الحقيقة الوحيدة ومعتنقيها الأساس العميق لكل الشرخ في العالم”.
نقد المركزية الغربية
تشكل هذه المقولة التي يقتبسها باور من بورن نقداً للمركزية الغربية في الصميم، وهي التي تدعي امتلاك الحقيقة وترى أن ما عند الآخرين لا يعدو كونه شيئا تاريخيا عارضاً في تطور الفكر الإنساني والحضارة تجاوزه الزمن. وهي ترى أن الحداثة الغربية هي المركز وهي المتن وما عداها هامش لا يُعتد به، ولا يمكن أن يشكل سوى عقبة كأداء أمام المزيد من التقدم والرخاء الإنساني.
العنوان ذاته عنوان ثوري، فما المقصود بثقافة الالتباس؟
تعني ثقافة الالتباس أن الإسلام، وخاصة في المرحلة التي تمتد بين العصر العباسي التي خصها الكاتب بفقرات قليلة، ثم عصر السلاجقة مرورا بالمماليك وعصر العثمانيين، والتي تقابل عند الأوروبيين ما يعرف بالعصور الوسطى، قد عاش في ظل تعدد المعنى، وأن ما يبدو تناقضا أو التباسا كان حاضرا إلى جانب المتداول في الإسلام. وهكذا استوعب الإسلام الفرق والمذاهب الإسلامية والصوفية والأفكار الأدبية والرؤى الشعرية المتسمة بالحرية الفردية ونزعة الاستمتاع بالحياة، جنبا إلى جنب مع الأفكار التي توصف بأنها أصولية.
وهكذا، عاش الشعراء والفقهاء والمتصوفة وأرباب الفرق والمذاهب الفقهية والفكرية جميعاص في ظل تعدد المعنى وفي دوحته، حيث يحظى كل منها بالقبول في المجتمع الإسلامي، في الوقت الذي كانت أوروبا في العصر الوسيط تعيش بمنطق الواحدية ورفض الآخر والعصبية المذهبية.
انفتاح على الآخر في ظل الإسلام يعود إلى القرآن
تعود هذه المرونة والدينامية والانفتاح على الآخر المختلف في ظل الإسلام بالدرجة الأولى إلى القرآن ذاته، باعتباره النص الأول المؤسس للفكر والحضارة الإسلامية. والقرآن الكريم، كما يرى الكاتب، هو نص مفتوح قابل للقراءات والتأويلات المتعددة، ولا تُستنفد معانيه بالتفاسير.
وليست القراءات السبع أو العشر مثلا راجعة فقط لاختلاف لهجات القبائل العربية، بل إلى قاعدة تجيز التعدد في القراءة والتفسير. وإذا كان هناك ما يعيق ذلك ويقضي على الغنى والخصب في فهم وتفسير النص القرآني، فإنه ليس سوى الترجمة.
لذلك يخصص الكاتب فصلين لعنوانين لافتين هما: هل يقول الله كلاما ذا بدائل؟ وهل يتحدث الله حديثا له أكثر من معنى؟
في المأثور الإسلامي ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب قوله “القرآن حمال أوجه”، وهذا بالذات ما يقصده باور، حيث أن تعدد القراءات وتعدد المعنى صفة أصيلة في الإسلام وفي نصه المؤسس الأول، وما القراءات السبع أو العشر إلا وسيلة أولى لتعدد المعنى. وكان ذلك التعدد هو الذي أغنى الإسلام بكل المذاهب الفكرية والفقهية والأصولية -وحتى الفنية والأدبية- ووجد في رحاب الإسلام قبولا بعكس الحداثة الغربية التي قضت على التعدد ومكنت لإيديولوجيا واحدة للهيمنة هي الفهم الغربي للعالم، حيث رؤيته وتفسيره الوحيد هو الممكن الأوحد والمقبول.
نقد السلفية
ولا ينسى الكاتب أن يوجه نقده للسلفية وأحد شيوخها، ابن عثيمين. وهو في نظر الكاتب، يستلهم تنظيراته وتفسيراته من دون وعي منه، تلك الإيديولوجيا الغربية القائمة على إنكار تعدد المعنى وتعدد القراءات، وإقرار منهج واحد لا يجيز إلا فهما واحدا وقراءة واحدة لنصوص الإسلام. ولعل الجمود الذي يتسم به مجتمعه مثلا والنزوع إلى التقليد والاجترار يعود إلى هذه الخلفية السلفية التي ناهضت تعدد المعنى الذي يُعد ركيزة في الإسلام. وما صراعات الوهابية مع الفرق الصوفية والمذاهب الفقهية والدينية وحربها الضروس التي شنتها على المختلفين إلا دليل على صحة نظرة الكاتب.
نقد الليبرالية
لا شك في أن الفكر النقدي الذي اتسم به الكتاب وطريقة الطرح والرؤية المنفتحة التي يمتلكها باور قد جعلته يطلع على نقائص فكر التنوير الذي حمله تيار التغريب، كما يسمى، والليبرالية كما يسمى تارة أخرى. وقد وجه إليها سهام النقد وعاب عليها تقربها من السلطة على حساب القيم التي نافحت عنها، وبتنكرها للتراث وشعورها بالنقص أمام الآخر الأقوى (الغرب). وقد أصبح ذلك الاتجاه التنويري والليبرالي عراب الاستبداد والتغريب وأداة لتكريس التبعية.
تتجلى هذه الرؤية في نقد الكاتب لطه حسين، عميد الأدب العربي. لا شك في أن طه حسين يجنح في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” إلى تبرير هيمنة الرؤية الغربية بسبب مستوى التقدم والتمدن، لكن حسين لم يكن عرابا للاستبداد وهو صاحب كتاب “المعذبون في الأرض” ووزير التعليم الذي دعا إلى مجانية التعليم، بعكس مثقفين آخرين كانوا ملكيين أكثر من الملك نفسه.
ليس من المستغرب أن نجد تزكية لهذا الرأي في مقدمة سارتر لكتاب فرانس فانون “معذبو الأرض”. فقد حمل سارتر على البورجوازيات في المستعمرات السابقة، ورآها مجرد بوق دعائي للغرب تقوم بتكريس هيمنته، متنكرة لقيمها وثقافتها وحق شعوبها في الحرية الكاملة غير المشروطة. وهي بورجوازية وكيلة أضافت أعباء على كاهل شعوبها وخلفت المستعمر في تسيير بلدانها، بل وكانت وسيطا بينه وبين تلك الشعوب همها أن تحافظ على مكاسبها وامتيازاتها. وقد وصفها بالمقولة المشهورة :”نحن نمتلك الكلمات وهم يستعيرونها”.
ثقافة عربية وإسلامية مكينة
سوف يجد القارئ في الكتاب ثقافة عربية وإسلامية مكينة وغزيرة لدى مؤلف الكتاب الذي تشيء مصادره ومراجعه إلى مدى الجهد المبذول والشاق للإحاطة بالموضوع. ويتجلى ذلك في نوعية الإحالات إلى المصادر والمراجع، مما يعني أن الكاتب لا يقيم أطروحته على معرفة سطحية، ولا يقدم خطابا إيديولوجيا مناقضا للخطاب الإيديولوجي الاستشراقي المعروف يقوم على المخالفة بغرض الشهرة والتزلف إلى العرب، ولكنه يقدم خطابا علميا موضوعيا تحدوه روح البحث عن الحقيقة والإخلاص لها، حتى لو انتهى البحث إلى نتائج لا يرضى عنها اليمين في أوروبا.
يضم الكتاب فصولاً عديدة بعناوين لافتة ومحفزة مثل: التعدد الحضاري، هل يقول الله كلاما ذا بدائل؟ نعمة الاختلاف، الجد اللغوي والتلاعب اللفظي، النظرة الرزينة للعالم وفي البحث عن اليقين. وهي عناوين مثيرة لمباحث جريئة تحفر في المخزون الثقافي العربي والإسلامي وتحيل إلى واقع عربي وإسلامي يتسم بتعدد المعنى والانفتاح، مما أعطى دينامية ومرونة للفكر الإسلامي، والتي سمحت له بهضم الثقافات المجاورة وفي استيعاب أساليب المعيشة واللباس والعادات والتقاليد الموجودة عند الشعوب الإسلامية التي اعتنقت الإسلام، سواء في مجاهل إفريقيا أو شرق آسيا وشرق أوروبا.
ولولا دينامية الإسلام ومرونته ووجود مبدأ تعدد القراءات وتعدد المعنى لما أمكن له أن يحظى بالقبول لدى تلك الشعوب.
يركز الكاتب على العصور التي تلت العصر العباسي الأول، أو عصر التشكل، كما يسميه: “بدلاص من ذلك سنعرض الحضارة الإسلامية في عصر ما بعد التشكل، أي بالشكل الذي عليها مواجهة الحداثة فيه. ذلك أن عصر البويهيين أو العصر العباسي الأول في معظمه يشيران، إذا ما نظرنا إلى التاريخ الإسلامي بأكمله، إلى فترات تكوين لم تكن قد سلمت فيها التيارات الجوهرية التي ارتبطت فيما بعد بالإسلام السني. ولذلك، بدا لي من المعقول أن أضع في بؤرة اهتمام دراسة إسلام ما بعد التشكل إلى جانب إسلام زمن الحداثة).
حلول الواحدية ورفض التعدد
ينكر الكاتب أن الإسلام قد عرف عصورا وسطى كما عرفتها أوروبا، ويرجع ذلك إلى تعددية المعنى وانفتاح الرؤية على مدى واسع من التأويل والاختلاف، وكأن هوية الأمة الإسلامية كمنت في اختلافها وتعددها. وبمجيء القرن التاسع عشر انتهى كل شيء، حيث حلت الواحدية ورفض التعدد محل ذلك التنوع: “في نهاية القرن التاسع عشر انتهى كل ذلك واختفت النظرية القياسية للبلاغة العربية من المناهج التعليمية. ولم يعد يُسمح للشعر بأن يشتمل على التلاعب اللفظي أو أن يكون مشبعا بتعدد المعنى، وإنما يجب أن يعبر عن مشاعر صادقة بطريقة غير مصطنعة. وقد بدأ الناس في الخجل من تراثهم الخاص، وحتى يومنا هذا يرغب المثقفون العرب في محو ألف عام كاملة من تاريخ الأدب العربي إن لم يكن أكثر”.
يستند باور في فكرته حول تعدد المعنى إلى اختلاف القراءات القرآنية. فالقرآن الذي نزل على سبعة أحرف سمح بتعدد القراءة، وكان ذلك قصدا لا اتفاقا وليس لمجرد مراعاة لهجات القبائل العربية فحسب.
أدى اختلاف القراءات إلى ظهور مذاهب دينية وفكرية مختلف في الإسلام. وفي الأصل، ساد الاتجاه الذي لخصه الإمام علي حين قال إن القرآن حمال أوجه، غير أن النزعة الواحدة التي جنح إليها المسلمون لاحقاً عرقلت تطورهم وجمدته منذ ظهور التيارات السلفية والأصولية التي يحمل عليها المؤلف بشدة: “إنه ليس العصر الوسيط والعصر الحاضر هما اللذان يقفان على طرفي نقيض، بل يفعل ذلك الإصرار الحديث على إفراد المعنى والطاقة الما- بع حداثية المتطورة للتراث الإسلامي بعد فترة التشكل”.
لا يخفي بار إعجابه بجهد علماء الحديث المسلمين: “على الرغم من الاتجاهات الإيديولوجية أو الفئوية… ما يزال من المدهش كيفية تمكن علماء المسلمين بصورة كبيرة من إخضاع كل الأحاديث المروية باستمرار للمراجعة الصارمة وإبقائها بهذه الطريقة متجانسة بحق”. ولا ينسى أن يحمل على السلفية وابن عثيمين: “لقد نشأ المذهب الحنبلي في اختلاف مع الاتجاه الكلامي العقلاني للمعتزلة، أي أنه كان في البداية اتجاها كلاميا بصورة خاصة، ثم أصبح بعد ذلك مذهبا فقهيا”.
السلفية وأدلجة الإسلام
هذا التوجه الذي يفرض نفسه في صورة ما يسمى باللامذهبية بتحفيز من الحداثة الغربية، إن السلفية تمثل بذلك الاتجاه العام في أدلجة الإسلام التي تمثل رد فعل على المطالبة الغربية الحديثة بالوضوح الأيديولوجي”. ويلقي الكاتب باللائمة على مفكري العرب في القرن العشرين، الذين تصل حماستهم للفكر والثقافة الغربية وإعجابهم بالمستوى الحضاري الذي بلغه الغرب إلى حد تنكرهم لثقافتهم وتبنيهم للرؤية الغربية، فيما يشكل تعديا على تنوع المعنى وتعدده. وقد عبر عن ذلك شارل ملك حين وصف ذلك بمحاولة “أن تضع نفسك في حذائه، أي نتبع الغرب في كل صغيرة وكبيرة لعلنا نبلغ أسباب الرقي ذات يوم”.
وهو رأي سخيف إلى حد الطرافة، كما يقول باور: “يعد الإصلاحيون الإسلاميون المحدثون في الغالب من أتباع نظرية التخلف تلك، بحيث يضمنون بذلك الدعم الغربي. إنهم يستسلمون لتقبل الفرضية الغربية التي وضعها يوسف شاخت بأن الفقه الإسلامي قد وصل بالشافعي إلى تكوينه النهائي في بداية القرن التاسع. لكن هذا بالتأكيد ليس صحيحاً”. وكان الكاتب يرد على نصر حامد أبي زيد في كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” الذي استقى منه فكرة الكتاب.
أسلمة الإسلام الغربية
تعتبر أسلمة الإسلام الأداة السياسية التي يتم بها إضفاء رؤية واحدة للعالم بالنسبة للغرب وإدانة كافة أشكال التعدد والاختلاف، كما حدث في قضية العراق في العام 2003، وعدم التفريق بين المقاومة الوطنية والإرهاب. وقد فضح ذلك يورغن تودينهوفر حين قال: “هناك في المقاومة العراقية محاربون مسيحيون أكثر من إرهابي القاعدة”. وكان الكاتب برنار نويل في كتابه “الموجز في الإهانة”، الذي عربه الشاعر محمد بنيس، قد انتبه إلى ذلك فعرى ثقافة الأسلمة التي يلجأ إليها الغرب لتشويه المقاومة المشروعة للعدوان الغربي والإسرائيلي على العالم العربي. وحسب رأيه، فإن “حماس” ليست سوى مقاومة وطنية مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وليست المقاومة العراقية سوى مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الأميركي، والشيطنة التي يلجأ إليها الإعلام الغربي بإسباغ الطابع الإرهابي على تلك المقاومة بأسلمتها وعرضها في شكل مجموعات أصولية متطرفة ليست سوى حلقة في مسلسل العدوان على الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وقتل كافة أشكال التعدد والرؤية المنفتحة على العالم.
نقد الكتاب: كفى بالمرء
نبلا أن تعد معايبه
من النقد الذي يمكن أن يوجه إلى الكتاب أنه قد يشعر المسلمين بالكمال والعصمة والسلامة من كل عيب والرضا عن أنفسهم، ما دام الكاتب قد أطنب في مدح التراث العربي الإسلامي والإشارة إلى تعدد القراءات فيه وانفتاحه على التأويل، في حين أن الواقع العربي والإسلامي بعيد عن الأخذ بأسباب القوة والنهضة، وأولها غياب الفكر العلمي بمفهومه الكونتي وانتشار فكر ديني سلفي في الغالب، وغياب الفكر العلمي والشفافية في تسيير الشأن العام، في ما يزيد من أزمة الأمة ووقوعها فريسة للتخلف والانحطاط والتبعية.
كما أن ولع الكاتب بالألاعيب اللفظية من حساب الجمل والتورية والجناس، وما يقرأ طردا كمديح ويُقرأ عكسا كهجاء، والأبيات العواطل والأبيات الخيفاء والمعجمة وشتى ألوان الانحطاط في الكتابة التي يراها الكاتب علامة رقي وتعدد للمعنى والقراءة، لا يجد من المفكرين العرب المحدثين من يتفق معه. فهذا أدب انحطاط وليس أدب حياة ولا أدب قوة. وقد صاحب سبات الأمة وانحطاطها وما شاع فيها من طبقية واستبداد وفكر ديني متزمت وغياب التأليف العلمي الرصين. وقد شهد العصر العباسي الأول، مثلاً، ما عرف الأدب العربي بهذا اللون من الشعر والنثر المغرقين في التكلف والبهلوانيات اللفظية الجوفاء التي يقدرها باور ويثني عليها، والتي ساهمت في انحطاط الأدب وخروجه من متن الحياة إلى هامشها.
لا شك في أن الكتاب غني بمادته نوعي بمنهجه وبسعة ثقافة الكاتب اللغوية والأدبية والدينية. وتدل مصادره على تمكنه من اللغة والثقافة العربية الإسلامية، باستثناء أخطاء قليلة كتحريفه لبعض أسماء الأعلام أو أخطاء معرفية مثل قوله أن العلاقة المثلية (الشذوذ) بين اثنين لا عقوبة عليها في الإسلام إذا كانت برضا الطرفين (الفاعل والمفعول به)، كما جاء في باب تعدد المتعة.
ومن جهته، وقع مترجم الكتاب إلى العربية، ولو أنه قام بجهد كبير مشكوراً، في أخطاء لغوية كثيرة، كما وقعت الدار الناشرة للكتاب في أخطاء مطبعية تجعل متابعة الكتاب مهمة عسيرة وتضاعف جهد القارئ في التنبه للخطأ وإدراك الوجه الصحيح. والمؤلف والدار مدعوان لتصحيح هذا الكتاب الكبير بمادته ومنهجيته ورؤيته المنفتحة والموضوعية معا.
ولكن، على الرغم من ذلك يبقى الكتاب جديراً بالقراءة والمناقشة، وهو بلا شك إضافة نوعية إلى المكتبة العربية وخرق للمألوف والمتداول في الكتابات الاستعرابية عن اللغة والإسلام كما عهدناه عند المستعربين الذين اختلطت نظرتهم بالتعالي والتحيز والمركزية.
حرث في أرض أخرى بأدوات علمية
كان باور مستعربا جيدا حرث في أرض أخرى بأدوات علمية واسترشد بنظرة علمية وبثقافة واسعة. وعلى الرغم من بعض نقائص الكتاب، فإنه “كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه”، مما جعل كتابه هذا فتحا معرفيا جديدا في الدراسات الغربية المقاربة للفكر والثقافة العربية الإسلامية.
 
*كاتب وناقد جزائري.