الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كانت سنة كئيبة في الشرق الأوسط

كانت سنة كئيبة في الشرق الأوسط

17.01.2015
روجر أوين



الحياة
الخميس 15-1-2015
فيما كنتُ جالساً أمام شاشة التلفزيون، أستمع إلى نقّاد وخبراء يناقشون الأحداث المهمّة التي شهدتها السنة التي انقضت، شعرت بالحزن، لا سيّما أنّ سعر النفط، أحد أهم الموارد في المنطقة العربية، يشهد تراجعاً كبيراً. إلى ذلك، وفيما شهد كلّ من العراق وسورية حرباً أهلية أدّت إلى وقوع مئات الآلاف من القتلى وإلى إلحاق ضرر جسدي أو معنوي مدى الحياة بعدد أكبر من الأشخاص، وانهارت الدولة الليبية بشكل شبه كامل، ناهيك عن بروز انقسامات مذهبية ودينية جديدة وخطيرة، من المرجّح أن يبقى العام 2014 منقوشاً في الذاكرة على أنه عام آخر من "الكوارث"، شأنه شأن العام 1948، والعام 1967 وعام "أيلول الأسود"، 1971.
ومع ذلك، وحتى في أحلك الظروف، يمكن استخلاص عِبَر قيّمة، أودّ الإشارة إلى ثلاث منها: أوّلها منطق الظهور المخيف المتعمّد لتحركات جهادية جديدة مقاتلة مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وثانيها دور الولايات المتحدّة في احتوائها، وآخرها استيلاء رجال ينتمون إلى جيل قديم جداً، وبعضهم في العقد الثامن من العمر، من أمثال الرئيس التونسي المنتخب حديثاً الباجي قائد السبسي، على ما اعتُبر ذات يوم من التحركات الاحتجاجيّة الشبابيّة.
وطبع تشكيل التنظيم المعروف باسم "داعش" –شأنه شأن "بوكو حرام" في نيجيريا– بروز جيل جديد من المجموعات المتطرّفة القادرة على إرساء رابط قوي، أنّما هشّ في رأيي، بين مجتمعات ضيّقة تضمّ شبّاناً مندفعين بتحفيز من الشكاوى المحلية الموجّهة ضدّ الغرب، وضدّ العالم الإسلامي على نطاق أوسع. وعلى الرغم من ظهورهم المحترف في مشاهد مرعبة، حين استقلّوا الدراجات الهوائية والنارية والشاحنات، وقاموا بمهاجمة مراكز الشرطة وبفتح السجون، أُرغِموا أيضاً على تقديم أنواع التسويات كافة، حين واجهوا الحاجة إلى حكم مساحات واسعة، إلى جانب مواجهتهم معارضة دينية ودولية شديدة، شملت هجمات بالطائرات من دون طيار وغارات جوية واسعة النطاق شنّتها الولايات المتحدّة، في محاولة لإنشاء جهاز خاص بها لمكافحة الإرهاب.
وتمّت مناقشة فاعلية استخدام القوة الجوية من أجل وضع حدّ للهجمات الميدانية المعادية، في الأدب التاريخي المرتبط بهذه المسألة. وقد صدر أخيراً تحذير عن نيجيريا، يفيد بأنّ الجهود الأميركية الهادفة إلى محاربة "بوكو حرام" من خلال الاستطلاع الجوي، كانت مقيّدة إلى حدّ كبير، بعد أن كان الجيش النيجيري عاجزاً وربما متردداً في استخدام هذه المعلومات خلال الفترة القصيرة المعروفة باسم "الوقت الحقيقي". ولكن في منطقة الشرق الأوسط، وفي محيط مدينة عين العرب في شمال سورية، يبدو أنّ الهجمات الأميركية بالطائرات من دون طيار لا تثير خوف مقاتلي تنظيم "داعش" فحسب، إذ بدأت أيضاً تقف عائقاً أساسياً في وجه تطوّع شبّان ينتمون إلى المجتمعات الإسلامية في أوروبا وشمال أميركا.
أما القسم المتبقّي من العناصر الشبابيّة في العالم العربي، فإمّا انقسم إلى فصائل متحاربة، كما هو الحال داخل ليبيا، أو تمّ احتواؤه باستعمال مجموعة من الوسائل، بدءاً بالحل الأمني في مصر، ومروراً بالعودة إلى ما قد يمكن اعتباره "سياسة الراشدين" في تونس. ويمكن تفسير كلتا العمليتين باعتماد وجهة النظر التقليديّة للثورات العالمية، والقول إنّ العملية المصرية تقوم على نسخة محدودة من البونابارتيّة، تفيد بأنّ الثورة أنقذت نفسها من نفسها، والعملية التونسية تعتمد مفهوماً مفاده أنه بدلاً من أن تلتهم الثورة أبناءها، ساهمت عملية الثورة نفسها، شأنها شأن النضال من أجل إنشاء نظام ثوري جديد، في دفع الشعب إلى الاعتماد على رؤساء مسنّين إنّما أكثر حكمة، علماً بأنّ البعض منهم استبداديون بطبيعتهم، في حين ينتمي البعض الآخر إلى الديموقراطيين الذين يفتقرون الحماسة.
وكالعادة، بقيت تونس حالة مثيرة للاهتمام، لكنها ليست بالضرورة نموذجية. وفي النهاية، يمكن تقديم تبرير ممتاز لما يجري، والقول إنّ استمرارية بنية الدولة ساهمت إلى حدّ كبير في تبلور ظاهرة بورقيبة، وبالتالي أي شخص مثل السبسي كان جزءاً هذه الظاهرة، حتى لو أنّ عمره تخطّى الثمانين. ومما لا شكّ فيه أيضاً أنّ عنصر الإعجاب كان ظاهراً بشدّة في مجال السياسة الاجتماعية، بغض النظر عن الوجه الذكوري فيها. بيد أنّ وجود هذا الرجل الثمانيني الأشيب والسائر على نهج بورقيبة، هو حتماً مسألة أكبر من أن تُفسَّر من دون اللجوء إلى بعض المتغيّرات، على غرار دور ما يسمى ب "الدولة العميقة"، التي تضمّ رجالاً أمضوا حياتهم في خدمة الحكومة.
أم أنّ هذه التفسيرات المنطقية كلّها لا تخدم القضيّة؟ لعلّ ما حصل ببساطة هو أنّ عدداً كافياً من التونسيين المخضرمين سياسياً كانوا حاضرين للبحث عن مرشّح أكسبته خبرته الطويلة الحكمة الضروريّة لتوجيه البلاد قدماً في مواجهة المخاطر الكثيرة المحدقة، التي لا تقتصر على محنتها الاقتصادية المتزايدة، إذ تشمل أيضاً روابطها المتقلصة بأوروبا، وخوفها المبرَّر من أعراض الاحتباس الحراري، المتمثّلة بتغير في أنماط الطقس الأفريقي، سيؤثّر بشكل مباشر في هبوب الرياح المحمّلة بالأمطار، من الجنوب إلى الشمال في أنحاء الصحراء الكبرى.
وفي نهاية المطاف، نتساءل إذا كان المثال الذي قدّمته منطقة شمال أفريقيا، حول الحاجة الملحة إلى إنشاء حكومة يشكلها مسؤولون أكبر سنّاً، يدفعنا إلى إعادة النظر في مفهوم "الدولة العميقة" في إطار بحث تاريخي جدي. لو سُمح لنا بإلقاء نظرة على ملفات الحكومة، لوجدنا آثاراً لهذه الأحكام وحالات الصمت، التي تشير إلى وجود أسرار بالغة الجدّية، إلى حدّ يحول دون الكشف عنها للعلن. ولكن يجب أن نحاول تخيّل تركيبة هذه المؤسسات التي تشكّل الجانب "الأمني" "للدولة، من أجل فهم مجموعة من المسيرات المهنيّة التي سلكها أشخاص باتوا يؤلّفون، مع الوقت، حشوداً مقسّمة ضمن مجموعات عمريّة، وصولاً إلى العقد الثامن من العمر، مع ما كل ما ينطوي عليه ذلك من حقوق، وربما مقتضيات النبل أيضاً.