الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كان ينقص محنة أهالي اليرموك فيلم "يرموك"!

كان ينقص محنة أهالي اليرموك فيلم "يرموك"!

07.04.2014
عارف حمزة


المستقبل
الاحد 6/4/2014
الأفلام السينمائيّة لها ذاك التأثير السحريّ العاطفيّ على واحدنا ولو في لقطة منها. بالإضافة إلى أنها تجعلنا نتفقّد حواسنا من جديد أثناء مشاهدتها. السينما تبقى ذاك الفنّ الذي يأتي أكبر من مقاس الحياة نفسها؛ ليس مثل التلفزيون الذي يكون أصغر منها، وليس كالمسرح الذي يكون على مقاس تلك الحياة. وميزة الأفلام السينمائيّة القصيرة أنّها تتخفّف من كلّ ما هو جانبيّ وموارب، وتحبّ أن تقدّم ما يبدو غير مهم أو تفصيلاً قد يبدو عاديّاً، كي يتلقّى المتفرّج تلك الخبطة الجماليّة المبدعة على قلبه بالضبط. وميزتها أنّ أحدنا يتعثّر في الطرقات؛ لأنّه نسي بأنّه قد خرج من مكان العرض وصار في الشارع.
الممثل والمخرج الفلسطينيّ محمّد بكري أذاقنا خبطة قويّة ومختلفة ومؤلمة، ونحن نشاهد فيلمه القصير "يرموك". ففي الوقت الذي جهّزنا فيه أنفسنا لتلقّي الإبداع والمختلف والجديد، خلال (8.08) دقيقة، بعد أن قرأنا، ما يُحفّز على ذلك، في مقدمة الفيلم "جرّاء الأحداث الدامية التي اندلعت في سوريا منذ 2011 تشرّد مئات الآلاف وعضّهم القهر والجوع".
هذا التصدير الذي جاء باللغتين العربيّة والإنكليزيّة، وكذلك عنوان الفيلم "يرموك"، أخذ تصوّراتنا مباشرة إلى المكان الصحيح، إلى مخيّم اليرموك الذي تعرّض، ككثير من المدن السوريّة الثائرة والتي تحوّلت بدورها إلى مخيّمات، لعاصفة من الوحشيّة اللامعقولة وغير المبرّرة بكلّ الأحوال. وكان أوّل سؤال تبادر إلى ذهني: لماذا يرموك وليس اليرموك؟ لماذا وضع إسم المخيّم، العزيز على قلبي، كنكرة من دون أل التعريف المتعارف عليها؟ ربّما لإسقاطه على كلّ "يرموك" فلسطينيّ في شتاته ومحنته الأبديّة. قلت لنفسي، مبررّاً تقصيراً لغويّاً يدلّ على نقصان النقصان لا على نقصان الكمال، ويدلّ على الحياد البارد أكثر من الدلالة على الحميميّ. وربّما جاءت جملة "تشرّد مئات الآلاف"، التي تصدّرت مقدمة الفيلم، إمعاناً في ذلك الخلل اللغويّ والحياتيّ للفيلم، عن الذي جرى ويجري في الواقع.
هذا التقصير اللغويّ الذي ذكرناه في عنوان الفيلم، وفي مقدمة الفيلم، كان مدخلاً صحيحاً للفيلم نفسه؛ الفيلم الذي لا علاقة له لا بالأحداث التي تجري في سوريّا، ولا بالمآسي التي حلّت بالفلسطينيّين في مخيم اليرموك. ليست المعالجة السطحيّة التي نقصدها هنا، بل هي تذهب، قولاً واحداً، نحو الإساءة للفلسطينييّن في مخيم اليرموك. كي تضاف مأساة جديدة في وجه شجاعة أولئك البشر المقهورين.
الفيلم يبدأ بتجوّل الكاميرا في وجوه عائلة تسكن غرفة متهالكة. الأم وأطفالها الصغار والأب (يقوم بدوره المخرج بكري نفسه) يبدون فقراء بكلّ معنى الكلمة. والوالد يتجوّل بنظره بين أطفاله، ثمّ بين إبنتيه الصغيرتين، تبدوان في الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمرهما، كي يختار ضحيّة منهم؛ لكي يأخذ بيد إحداهما ويركب سيارته القديمة (سيارته!!) ثمّ يذهب في الليل لموعد هو لبّ الفيلم نفسه. تقف سيّارته منتظرة سيارة فخمة تقلّ "خليجيّاً" مع سائقه. ينزل السائق ويذهب ليُعاين "البضاعة" البشريّة؛ يفتح فم الفتاة. ينظر في وجهها وجسدها الصغير، ثمّ يعود للخليجيّ معطياً إياه أوصاف البضاعة التي اتفقوا على شرائها بـ"ألف" كثمن لها. وبسبب أسنان البنت "الخربانة" يدفع السائق "خمسمائة" رغم اعتراض الأب/ البائع، ثمّ يأخذ البنت إلى سيّارة الخليجيّ/ المشتري ويُغادر.
يعود الأب إلى البيت ومعه أكياس من الخبز والفواكه، فيستيقظ الأطفال ويبدأون بفتح الأكياس بشوق الجوع المحموم. بينما الأم وابنتها، التي نجت، واجمتان من هول ما جرى لتلك الفتاة القاصر البريئة بسبب الجوع.
هل هذا ما يمكن صنعه من أجل مخيم اليرموك؟ هل هذا ما يمكن أن يلفت نظر العالم للمأساة الفلسطينيّة السوريّة الجديدة المستمرّة منذ ثلاثة أعوام؟ لو كان مخرج الفيلم سوريّاً هل كان سيسكت الناس عن العار الذي يلصقه بأولئك الأبرياء من المخيم؟ هل كان ينقص المخيّم وأهالي المخيم ألم جديد يُضاف لآلامهم بهكذا صفاقة؟.
لو راجعنا الأمور في الفيلم بدقّة، سنجد أن البكري لم يُوفّق في أيّ شيء سينمائيّ؛ فالسيارة الخاصّة بالوالد، وكذلك بالثريّ الخليجيّ، كانت تحمل لوحة إسرائيليّة وليست سوريّة، كما أنّ المكان الذي توقفت بجانبه السيّارة منتظرة سيّارة الخليجيّ، كان بالقرب ممّا يُسمّى جدار الفصل العنصريّ بين "إسرائيل" والمناطق الفلسطينيّة. وبالتالي فالفيلم توجد فيه دلالات على الداخل الفلسطينيّ، وليس عن مخيّم اليرموك في دمشق. كما أنّ وضع مؤثرات صوتية تصويريّة لأصوات قذائف بعيدة لا تقرّب المكان أكثر من دمشق.
ما يُقارب من مئة شخص ماتوا في مخيّم اليرموك جوعاً، بسبب الحصار الاقتصاديّ عليه، من قبل قوّات النظام السوريّ. لم يكن هناك خبز في الأفران أو المحال التجاريّة، ولا فواكه ولا طحين ولا أغذية ولا حليب ولا أدوية، لتذهب الناس وتشتريه أثناء ذلك الحصار الوحشيّ. كما أنّ هناك مئات منهم ماتوا بسبب القصف الوحشيّ أو تحت التعذيب في أقبية النظام. وعشرات منهم ما زالوا معتقلين في أقبية النظام. بالإضافة إلى أنّ الآلاف منهم نزحوا من بيوتهم إلى أماكن بعيدة، ولم نسمع عن حالة واحدة، واحدة فقط، قام فيها أحد الآباء من مخيّم اليرموك ببيع ابنته القاصر، من أجل أن يحصل على نقود ليُطعم باقي أفراد عائلته.
قضيّة تزويج القاصرات حدثت في المجتمع الفلسطينيّ، كما في المجتمع السوريّ ومجتمعات أخرى، ولكن ليس في مخيّم اليرموك، وليس ضمن هذه الأحداث التي يدّعي الفيلم بأنّه يقدّمها.
يبدو الأمر هنا أننا أمام الشجاعة والحفاظ على الكرامة، التي تحلّى بها الفلسطينيّون ضد آلة القمع والقصف والتدمير والتجويع والتهجير...، يأتي أحد ما لا ليصوّر المأساة المخيفة، ولا ليمدح ما لا يمكن محوه بسهولة، بل ليرمي عليهم فقط عباءة العار! يأتي أحد ما ليُضيف افتراءً بحقّهم، لم يقترفوه، ولم يُفكّروا فيه أثناء أسابيع الجوع والضنك والصمود الطويلة. وهذا الافتراء الذي توقّعناه من قنوات وأقلام النظام السوريّ؛ بسبب إصرار الفلسطينييّن على مؤازرة إخوتهم السورييّن في ثورة الحريّة، لم نكن نتوقّعه من سينمائيّ فلسطينيّ له تجربة قديمة في التمثيل والإخراج السينمائيّ، بغضّ النظر عن جودة تلك التجربة من عدمها. بمعنى آخر، لو أنّ بشار الأسد نفسه فكّر بتشويه سمعة أهالي مخيم اليرموك من خلال فيلم سينمائيّ، لما تفتّق ذهنه الإجراميّ عن هكذا تفاهات.