الرئيسة \  تقارير  \  كاونتربنش  :الصراع الأوكراني والنظام العالمي الإمبريالي

كاونتربنش  :الصراع الأوكراني والنظام العالمي الإمبريالي

12.03.2022
ريتشارد روبنستين


ريتشارد روبنستين* – (كاونتربنش) 4/3/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الغد الاردنية
الخميس 10/3/2022
لا شك في أن هجوم فلاديمير بوتين على أوكرانيا غير قانوني ولا أخلاقي. ومن منظور المصالح الروسية، يغلب أيضًا أن يثبت كونه خطأ باهظ التكلفة. ومع ذلك، فإن السؤال الأساسي الآن هو ما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟ والإجابات التي قدمها الغاضبون من الغزو حتى الآن تأتي بنتائج عكسية بشكل خطير.
يصر الأميركيون والأوروبيون على أنه “يجب معاقبة بوتين”. لكن أشكال العقوبة التي يتم تنفيذها الآن -العقوبات الاقتصادية الشديدة والمساعدات العسكرية لأوكرانيا- مصممة فقط لإطالة أمد الصراع العسكري ولإعاقة الاقتصاد الروسي، على ما يبدو بناءً على النظرية القائلة إن الجماهير والأقلية الحاكمة الساخطين في روسيا سيستبدلون بوتين عندئذٍ بزعيم يناسب أكثر هوى الغرب. عذراً، لكنَّ هذا لا معنى له. سوف تؤدي إطالة أمد الصراع إلى مقتل المزيد من الأوكرانيين والروس، وإلهام مواطنيهم ومحبيهم بالثأر. كما أنها قد تقرب العالم من حرب نووية. وعلاوة على ذلك، فإن جعل شعب كله يعاني عادة ما يوحده ضد خصمه بدلاً من قلبه ضد زعيمه.
تشير مجموعة العقوبات المطبقة والمقترحة أيضًا إلى أن العديد من الغربيين يعتبرون بوتين نظيراً لأدولف هتلر، وأن العودة إلى طاولة المفاوضات تعادل الاسترضاء على غرار مفاوضات ميونخ. لكن هذا الموقف ينم عن سوء فهم عميق لما يحرك الصراع ومن هي الأطراف المتصارعة حقًا. ليس فلاديمير بوتين هو العقل المدبر الشرير المصمِّم على الهيمنة على العالم والإبادة الجماعية المدمرة للأعراق “الأدنى”. إنه الزعيم القاسي لما كان ذات مرة إمبراطورية كبيرة تمارس اللعبة الإمبريالية في عالم من الإمبراطوريات المتنافسة. ولكن، هل هو أكثر وحشية من هاري ترومان في كوريا، وليندون جونسون في فيتنام، وجورج دبليو بوش في العراق؟ من الواضح أنه ليس كذلك. وإذن، لماذا يتم اعتبار شخصيته السيئة السبب الرئيسي للصراع؟
أحد الأسباب يبدو واضحاً. كما يدرك محللو الصراع، من الشائع أن يعتبر كل طرف في صراع عنيف أن حقد الخصم وقسوته هما السبب الوحيد للصراع. “إنهم معتدون أشرار يختارون القتال. ونحن مدافعون فاضلون، نقاتل لأننا مضطرون إلى ذلك”. هذه بالضبط هي الكيفية التي وصف بها محررو صحيفة “نيويورك تايمز” الحرب في أوكرانيا. كتبوا:
“… لم تتضمن أي من ذرائع الحرب التي كررها بوتين في الأيام والأسابيع الأخيرة الكثير من الحقيقة أو أي مبرر على الإطلاق لشن حرب على جار أضعف. هذه حرب اختيارية لجميع الأسباب الخاطئة، والسيد بوتين وزمرته مسؤولون وحدهم وبشكل كامل عن كل قطرة دم أوكرانية -وروسية- وعن كل سبل عيش تُدمر، وعن كل الآلام الاقتصادية التي يسببها الصراع”.
أفترضُ أن نصف حقيقة أفضل من عدم وجود حقيقة على الإطلاق، وهذا بالضبط نصف الحقيقة. لقد غزا بوتين أوكرانيا من دون أن يتعرض لهجوم عسكري. وبعض أسباب الحرب التي قدمها (ومنها على سبيل المثال، الزعم بعدم وجود شيء مثل قومية أوكرانية) كانت مفبركة. وكانت أسباب أخرى، مثل رفض الولايات المتحدة وأوروبا وقف توسع الناتو، صحيحة تمامًا، لكنها لا تبرر قصف وقتل الأبرياء.
لكن ما خرجت به صحيفة “نيويورك تايمز” عن المسار الصحيح هو التأكيد أن القادة الروس يتحملون المسؤولية “الكاملة وحدهم” عن أعمال العنف التي تجتاح أوكرانيا. إنهم، في الواقع، واحد من الأطراف المسؤولة، وإنما واحد فقط. إن أسباب هذا الصراع تتجاوز الخيارات السيئة لبوتين، كما يتجاوز حل المشكلات التي أدت إلى نشوب الصراع بكثير معاقبة الروس. إن أسباب هذا الصراع منهجية، نظامية، وهو ما يعني أن الآخرين، إضافة إلى بوتين وحاشيته، يجب أن يتقاسموا المسؤولية عن اندلاع العنف الحالي.
تعني كلمة “منهجي” وجود نظام -شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي تدعمه أنماط من الفكر والكلام والسلوك- يبني العلاقات بين الدول والشعوب المتورطة في الصراع. والكلمة التي تصف نظامنا الحالي على أفضل وجه هي “إمبريالي”. الآن، تتنافس أربع إمبراطوريات كبرى على الهيمنة الإقليمية والتفوق العالمي. وهي، من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، الكتل متعددة الجنسيات التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، والصين، وأوروبا، وروسيا. كما أكدت العديد من القوى الإقليمية الصاعدة، مثل تركيا وإيران، نفوذها بأسلوب إمبريالي، لكن اللاعبين الرئيسيين في أزمة أوكرانيا هم الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، مع الصين كمشارك محتمل.
لا ينبغي أن يكون اندلاع العنف في هذه الحالة مفاجئاً؛ فعادة ما تنتج الأنظمة الإمبريالية الصراع العنيف كمنتج منتظم لعملياتها. وفي كثير من الأحيان، تقوم الشعوب المخضَعة بالتمرد، ما يحرض القادة الإمبرياليين على قمع المعارضين ويغري الإمبرياليات المنافسة بالقدوم لدعمهم. وفي كثير من الأحيان، تتحدى الإمبراطوريات حق بعضها بعضا في الحكم، لا سيما في المناطق الحدودية المتنازع عليها -وهو شكل من أشكال المنافسة التي أدت إلى نشوب الحروب بالوكالة والحروب العالمية. وتشكل أوكرانيا جائزة في المنافسة بين الإمبراطورية الأميركية، يساعدها شريكها الأوروبي الأصغر، من جهة، وروسيا، المدعومة معنوياً من حليفها الصيني من جهة أخرى. وثمة العديد من النظائر التاريخية لهذا الوضع، بعضها مخيف للغاية. على سبيل المثال، أدت المنافسة على صربيا الساعية إلى الاستقلال بين الإمبراطورية النمساوية المجرية، بدعم من الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية الروسية، بدعم من بريطانيا العظمى وفرنسا، مباشرة إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
بطبيعة الحال، لا تؤكد الإمبراطوريات دائمًا مصالحها بالذهاب إلى الحرب. يمكن اللجوء إلى المفاوضات لتسوية نزاعاتها، مؤقتاً على الأقل، حتى لو كان النظام ككل يميل إلى توليد العنف الجماعي. وكان من الممكن تجنب المأساة الحالية التي حلت بأوكرانيا، لكن تجنبها يتطلب أكثر من صبر السيد بوتين أو تغيير رأيه. من شبه المؤكد أنه كان من الممكن تجنب الغزو لو وافق الأميركيون والأوروبيون على وقف توسيع الناتو ومعاملة أوكرانيا كدولة عازلة محايدة، كما فعلوا بعد الحرب العالمية الثانية في حالتي النمسا وفنلندا. وكما كان الحال مع تلك الحالات، كان بالوسع الاعتراف بحقوق أوكرانيا في الاستقلال الذاتي في مجالات معينة (على سبيل المثال، صنع القرار الاقتصادي) مع تقييد حقها في أن تصبح حليفًا عسكريًا لأي من الإمبراطوريتين. ولكن لا يوجد أي دليل على أن القوى الغربية أخذت المطالب الروسية على محمل الجد بما يكفي لتفكر في قبول أي اقتراح من هذا القبيل.
لماذا لم تفعل؟ في عهد بوتين، ضاعف الناتو مساحته، وأنشأ قواعد عسكرية وجوية في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، وأقام “قاعدتين كبيرتين” بما في ذلك منشآت للصواريخ، في بولندا ورومانيا. وفي غضون ذلك، واصلت الولايات المتحدة الاحتفاظ بأكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم وتحديث منشآتها النووية بهدف تهديد (أو “ردع”) منافسيها الروس والصينيين. كان التسويغ المنطقي لهذا الموقف العدواني هو ميل الخصوم المزعوم إلى العدوانية -وهي قطعة كلاسيكية من منطق تسويغ الصراع الدائري. في العام 2013، أيد زعيم أوكرانيا المنتخب اتخاذ خطوة لربط بلاده بروسيا بشكل أوثق أكثر من أوروبا. وفي الرد على ذلك، أطاحت به انتفاضة مدعومة من الغرب وأقامت نظامًا مواليًا للغرب في كييف. وردت روسيا على هذا العدوان الواضح بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم، وهي أرض روسية سابقة يقطنها متحدثون بالروسية، وبدعم الانفصاليين في منطقة دونباس. ثم أصبح هذا العدوان المزعوم سببًا لتكثيف الزعماء الأوكرانيين والغربيين حملتهم لجلب أوكرانيا إلى الفلك الغربي.
كل هذا كان جزءًا من نمط أكبر من الصراع بين الإمبراطوريات. كان ما يطالب به بوتين لسنوات هو إنهاء نظام ما بعد الحرب الباردة الذي تعامل مع روسيا كقوة مهزومة، لكنها معادية، يُحظر عليها معالجة مخاوفها الأمنية وزيادة نفوذها في العالم. وفي العام 2019، لخصت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وهي منظمة يصعب تصور أن تكون موالية لروسيا، هذه السياسة بدقة:
السياسة الأميركية تجاه روسيا منذ نهاية الحرب الباردة هي قصة إدارات مختلفة تتبع أساسًا مجموعة السياسات نفسها. وثمة جانبان يبرزان كعاملي توتير رئيسيين في العلاقة الثنائية: رفض قبول روسيا كما هي، كما يتضح من المبادرات المتكررة لإصلاح وإعادة تشكيل نظامها السياسي؛ وتوسيع الهيكل الأمني الأوروبي الأطلسي إلى الفضاء الأوراسي المحيط بروسيا. وقد تمت محاولة كل من هذين المسعيين الطموحين للغاية مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى، ومع ذلك ما يزال كلاهما حجري زاوية في السياسة الأميركية الرسمية تجاه روسيا. ولدى التفكير في المسألة الآن بالنظر في الماضي، سيكون من الصعب الإفلات من الاستنتاج القائل إن نهجاً أميركياً أقل طموحًا في التعامل مع روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق كان يمكن أن يشكل أساسًا أفضل لعلاقة أميركية روسية أقل توتراً”.
مع ذلك، كان ما لم يذكره تحليل “كارنيغي” هو حقيقة أن هذه هي الطريقة التي تعمل بها الإمبراطوريات في العادة. إذا لم تقم بمحو أعدائها تماماً كما فعل الرومان في قرطاج، أو بإعادة تشكيل مجتمعاتهم من الألف إلى الياء، كما فعلت الولايات المتحدة مع دول المحور بعد الحرب العالمية الثانية، فإنها تعاملهم كخصوم سياسيين وعسكريين يجب إبقاؤهم ضعفاء ومعتمدين على غيرهم. ولذلك، من غير المفاجئ أن يستاء أولئك الذين يُخضعون لمثل هذه القيود والإهانات من خضوعهم، وأن يحلموا باستعادة مجدهم المفقود، ويصروا على التمسك بما تبقى لهم من إمبراطورية متضائلة. وعندما يكونون غير موضع ثقة ومحتقرين من قبل المنتصرين، فإنهم يردون بعدم الثقة نفسه وينظرون إلى الأسلحة الموجهة إليهم على أنها تهديدات وجودية لا تطاق ولا يمكن التسامح معها.
لهذا السبب، لم يكن قرار فلاديمير بوتين الخاطئ بغزو أوكرانيا نتيجة لغطرسة الزعيم الروسي وانعدام شعوره بالأمن. كان قراره أيضاً نتيجة اليأس الناجم عن الغطرسة والشعور بانعدام أمن مماثل في الإمبراطوريات الغربية. ويعني تجاهل الطبيعة البنيوية العميقة لهذا الصراع الانحياز إلى طرف في لعبة “إلقاء اللوم على العدو الشرير” التي تنسِب العنف إلى شخصية القائد السيئة بدلاً من تحميل المسؤولية للنظام الإمبريالي نفسه. وعلاوة على ذلك، فإنه يفقر فهمنا للصراع من خلال تبسيط السرد إلى الحد الذي يبدو معه أن القضية الوحيدة ذات الصلة هي حق أوكرانيا في تقرير المصير. وفي عالم تهيمن عليه الإمبراطوريات المتنافسة، غالبًا ما تتسبب حركات تقرير المصير القومي في نشوب صراعات عنيفة -وحروب عالمية في بعض الأحيان.
ما الذي يمكن فعله في هذه الحالة لتفادي التصعيد المدمر الذي يزداد خطورة باطراد؟ الجواب الفوري هو مواصلة مفاوضات السلام الجارية الآن بين روسيا وأوكرانيا. وعلى الرغم من الصور الدعائية التي تعرض الروس على أنهم منخرطون في حرب شاملة لقتل المدنيين وتدمير المجتمع الأوكراني، فإن تقدمهم البطيء نسبيًا الذي يتوخى التمييز بين العسكريين والمدنيين، والذي يسير في هذه المرحلة من دون دعم جوي، يشير إلى استعداد مستمر لدى روسيا للتفاوض على حل لا يتطلب إما تكتيكات “الصدمة والرعب” العسكرية أو احتلال البلد. وإذا تمكنت هذه المفاوضات من تحقيق وقف لإطلاق النار، فستكون الخطوة التالية هي عقد مؤتمر سلام يمكن أن يعيد النظر في مطالب روسيا الأصلية، فضلاً عن التعامل مع المخاوف والاهتمامات الجديدة التي خلقتها الحرب نفسها.
من الواضح أن هذا النوع من المفاوضات سيكون أفضل من التصعيد المستمر، ولكن يجب على المرء أن يدرك أنه من غير المرجح، في عالم ما تزال تسيطر عليه الإمبراطوريات المتنافسة، أن تؤدي المفاوضات القائمة على تعظيم النفوذ إلى حل النزاعات بشكل مستدام. إن النظام الإمبريالي نفسه، المرتبط بالنخبة والرأسمالية المفترسة والعسكرة، هو الذي في حاجة ماسة إلى التغيير. وستكون الحركات الشعبية لتفكيك الإمبراطوريات وخلق نظام عالمي أكثر ديمقراطية وسلمية هي البديل الحقيقي الوحيد لمنافسة يمكن أن تنتهي إلى اندلاع حرب نووية.
بالنسبة للبعض، قد يبدو هذا الأمل مطلباً بعيد المنال. لكن هناك تأييداً للتعبئة المناهضة للإمبريالية والمؤيدة للإنسانية أكبر بكثير مما قد يعتقد المرء. وقد يكون وقف شيطنة القادة وإلقاء ضوء النقد الشامل على الإمبراطوريات خطوة أولى نحو إطلاق العنان لهذه الإمكانات.
 
*ريتشارد إي روبنشتاين Richard E. Rubenstein: مؤلف وأستاذ جامعي لحل النزاعات والشؤون العامة بجامعة جورج ميسون. شغل منصب مساعد مدير معهد “أدلاي ستيفنسون” للشؤون الدولية في شيكاغو قبل أن يصبح أستاذًا مشاركًا للعلوم السياسية في جامعة روزفلت، ثم أستاذًا للقانون وعميدًا أكاديميًا في كلية أنطاكية للحقوق. وهو أستاذ في جامعة جورج ميسون (منذ العام 1987)، وعضو هيئة تدريس ومدير سابق لكلية جورج ميسون جيمي وروزالين كارتر للسلام وحل النزاعات، أقدم وأكبر برنامج لدراسات الصراع في الولايات المتحدة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Ukrainian Conflict and the Imperial World System