الرئيسة \  تقارير  \  كتاب "دولة العبث".. حين يصبح التأريخ فناً وحراسة للذاكرة

كتاب "دولة العبث".. حين يصبح التأريخ فناً وحراسة للذاكرة

24.04.2022
شام مصطفى


شام مصطفى
الجزيرة
السبت 23-4-2022
كثيرة هي الكتب التي تناولت فترة حكم حزب البعث لسوريا (من عام 1963 حتى الآن) تأريخا وتحليلا، وعلى الرغم من اختلافها وتنوع موضوعاتها وتباين أهميتها ظل القاسم المشترك بينها جميعها هو أسلوب تعاطيها للتاريخ، بحيث جعلته عبارة عن مصفوفة من الأحداث السياسية الكبرى التي لا نرى فيها للسوري سوى بوصفه رقما أو طرفا هامشيا من أطراف صناعة تلك الأحداث.
بينما يسعى فواز العلو مؤلف كتاب "دولة العبث.. سيرة ومذكرات" -الصادر حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- إلى إعادة النظر في ذلك التاريخ من وجهة نظر من عايشوه وأثروا وتأثروا به، محاولا بذلك استعادة أصواتهم التي عمدت السرديات التاريخية المسيسة إلى إسكاتها على مدى عقود.
فيدون العلو مذكرات وسير عشرات السوريين المحملة بمشاعرهم وانطباعاتهم وتعليقاتهم وآرائهم حول أبرز الأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية الواقعة بين عامي 1975 و2015 مستعينا بأصوات رواة من كافة شرائح المجتمع ليكسر بجماليات سردهم ورشاقته وقربه من الإنسان الحاجز السميك بين السوريين وتاريخهم.
دمشق الجميلة والحزينة
في دار عربية بعشوائيات دمشق ينزل أديب -أحد الرواة- زميلا في السكن مع طالبين آخرين: عادل وجبران، وثلاثتهم طلاب وافدون من محافظاتهم إلى دمشق لمباشرة دراستهم الجامعية، وما هي إلا صفحات لنتعرف من خلالهم إلى مجتمع طلابي نشيط يغلي وملؤه الحماس للخوض في النقاشات والسجالات السياسية والمجادلات المجتمعية في بلاد نامية تشهد تحولات كبرى في شتى الصعد أو "هذا ما كان يفترض" كما يقول عادل.
لكن هذا الحماس سنلاحظ أنه يخبو شيئا فشيئا مع اصطدام الزملاء الجدد وأقرانهم بواقع معيشي بائس يعشيه سكان العاصمة، ويزيده بؤسا نظام أمني متغلغل يطوق بأذرعه كل مفاصل الحياة مستعينا بضعفاء النفوس لتكميم الأفواه ونشر الذعر بين جيل الشباب وكل صاحب رأي واهتمام بالشأن العام.
وتحت وطأة هذه الظروف نرى أحلام الشباب الجامعي تنهار واحدة تلو الأخرى لتحل محلها "أهداف واقعية" يمكن اختصارها بكلمة واحدة: الهجرة.
يقول إلياس زميل لعادل وجبران "يبدو ألا حياة لنا إلا خارج هذه البلاد. وعندما تتوفر الهجرة سأهاجر ولو كنت وزيرا للصحة".
وإلى حين حصولهم على الفيزا (التأشيرة) إلى دول أوروبا أو الخليج كان على هؤلاء الشباب أن يمضوا وقتهم بالمتلازمين الأبديين للأزمنة الموحشة في دمشق: شرب العرق ولعب الورق، حسب المؤلف.
أما لمن قرر أن يكون غير ذلك، أن يكون مواطنا حقا وينشغل في مشاغل أمته فكان ينتظره مصير من اثنين: فإما الاعتقال كما حدث مع الطالب الملهم لزملائه جبران حين تجرأ وانتقد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، وإما الطرد والتحقير كما حدث لعادل عندما قرر أن يقول لرئيس اتحاد الطلبة أنه فاسد في وجهه.
وهكذا يسرد علينا العلو تاريخا أبطاله شباب بائس في سبعينيات القرن الماضي جملته دمشق بجمالها وطيبة أهلها وأحزنته بضيق أفق العيش فيها وانحسار الأمل بمستقبل أفضل.
 الثمانينيات.. شرخ المجتمع
وفي الفصل العنون بـ "1979" يسلمنا العلو إلى مرحلة جديدة من مراحل حياة رواتنا الشباب ومراحل حكم البعث لسوريا. مرحلة يميزها شعور طاغ لدى الشباب بالنفور من الواقع المعيشي والسياسي في بلادهم بعد مضي قرابة العقدين من الزمن على وصول البعث إلى السلطة وليس في رصيده سوى الهزائم والخيبات.
وفي 16 يونيو/حزيران 1979 نفذ تنفذ تنظيم إسلامي مسلح هجوما على كلية المدفعية في مدينة حلب خلال تجمع 200 مجند لبدء حصة تدريبية، فقتل 32 منهم وجرح 54 وكان معظمهم من الطائفة العلوية التي ينتمي لها الرئيس السابق حافظ الأسد.
ويعيش السوريون إثر تلك العملية حالة من الرعب سادت مع انتشار عناصر سرايا الدفاع (التابعة لرفعت شقيق حافظ الأسد) الذين "استباحوا دمشق، حيث لم تعد هناك حرمة لشيء، كل الأشياء مستباحة بنظرهم، وجميع الناس متهمون وفق عقيدتهم. انقسام مجتمعي حاد، بين مخابرات تتبع لها مجموعة من المخبرين، ومواطن متهم حتى يثبت العكس، والتهمة جاهزة في أي لحظة" كما يقول عادل.
ويضيف متنبئا بالقادم "ستحدث تغييرات جذرية ومهمة في هذا البلد، ستسقط طبقات وتصعد أخرى، سيسحق أناس ويصعد آخرون، سيتغير شكل المتنفذين وشكل الولاءات، ستبرز بنى اجتماعية جديدة لم نعتد عليها، ستمحى ألوان ويتغير شكلها، أعتقد أنه لا توجد منطقة وسطى أو رمادية، إما أبيض وأسود، لا لون آخر بينهما، سيحل مفهوم الواحد الأحد، لا شريك له إلا بالطاعة".
نبوءة، جاءت مجزرة حماة كأنما هي تصديق لها، ففي الثاني من فبراير/شباط 1982 طوفت وحدات من الجيش السوري بأمر من رئيس البلاد حافظ الأسد محافظة حماة (وسط البلاد) بذريعة القضاء على تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تبدأ بتنفيذ هجوم عسكري أودى بحياة عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين.
أما من نجا من الحمويين فظل متهما بحكم المناطقية والطائفية إلى أن تثبت براءته، مما جعلهم يعيشون حالة من الحذر والقلق الدائمة تمنع عليهم حتى حزنهم على ضحاياهم، فيقول عادل واصفا حال الحمويين "رحماك يا الله كم يحمل هؤلاء من الأحزان والألم حتى مواساتهم أو العزاء بأمواتهم يعتبر جريمة قد تودي بمن يتعاطف معهم، لقد وضعوا على جرحهم ملحا، وكتموا آلامهم بصمت وهدوء".
التسعينيات.. زمن نقمة النعمة
يبدو الزمن في سوريا خلال تسعينيات القرن الماضي بطيئا ومتثاقلا يمر بصعوبة على رواتنا المنتشرين في سائر أنحاء البلاد، والذين يحاولون إيجاد مأمن من يد نظام أمني متيقظ وحاقد، وبناء مسافة أمان بينهم وبين المسؤولين في وظائفهم وأحياء مدنهم والمفارز الأمنية القريبة من منازلهم.
فها هو عادل يعود إلى قريته في دير الزور -في الجزيرة الفراتية السورية- بعد أن خاب أمله في كل ما عايشه خارجها في دراسته ووظائفه وعلاقاته على مدى عقود.
ودير الزور كغيرها من محافظات الجزيرة، مدن ظلموا أهلها في أرضهم ومائهم ونفطهم، ويقول يعقوب ابن الجزيرة وصديق عادل مختزلا المشهد "نحن أبناء المدن في الجزيرة السورية مثل كروم العنب التي جفت الينابيع من حولها وتركت لشمس الصيف، فكان مصيرها الجفاف والموت بأرضها".
أما نهر الفرات الذي يخترق المدينة ويعد منبع خيراتها، فقد بني عليه سد حرم أهلها إلا من النذر اليسير من مائه، فأخذ الجفاف يقضم ما يعلو أرضهم من خيرات، بينما يتكفل الفساد بقضم ما في جوفها من ثروات نفطية.
في حين بدأت المظاهر المدنية والحضارية بالتراجع لصالح المظاهر العشائرية التي نمت تحت مباركة أجهزة الدولة التي وجدت فيها السبيل الأقصر لتفكيك المجتمع المنهوب وإضعافه، وكان ذلك التحول يجري وسط سطوة أمنية تنامت "كما يتنامى نبات الزل على ضفاف الفرات بعد الحالة القمعية التي مارسها السد عليه" على حد وصف عادل.
بينما تدير شبكات الفساد المتشعبة بين ضباط المخابرات والحزبيين وصغار المنتفعين شؤون الدولة ومؤسساتها فتعين وتقيل من تشاء دون أن يكون بإمكان أحد الاعتراض عليها، يقول يعقوب "إن مساعدا في الأمن السياسي باستطاعته أن يخرج جميع السكان من بيوتهم عراة حفاة إلى الشوارع دون كلمة احتجاج منهم".
وهكذا، يصور لنا العلو كيف تحولت مدن الجزيرة، الغنية بالنفط والمياه والأراضي الخصيبة والإرث الحضاري الضارب في جذور التاريخ، من نعمة تكلل أهلها إلى نقمة جعلت حياتهم كالكابوس.
الألفية الجديدة.. آمال ضائعة
"مات حافظ الأسد ولكنه ترك الخوف خلفه، إذ قال الكثيرون إنه أصبح يحكم سوريا من قبره" يقول عادل واصفا أثر موت الرئيس في نفوس السوريين مع بداية الألفية الجديدة.
وعن إجراءات وصول ابنه بشار إلى السلطة عام 2000 يقول "تغير الدستور بدقائق قليلة، وعدد النجوم على كتف الوريث تجاوز عدد نجوم السماء".
ومع ذلك سادت أجواء من الفرح والتفاؤل بمستقبل أقل خوفا وأكثر انفتاحا، يحدوها أمل بحياة كريمة لا يكابد فيها السوريون ليل نهار في سبيل لقمة العيش.
آمال سرعان ما تبخرت أمام أحداث تكميم الأفواه وإغلاق المنتديات السياسية التي أعقبت الانفتاح، وأمام سريان الفساد "بديناميكيته" المعهودة التي لم تتغير بوصول الرئيس الجديد رغم الوعود، حيث سرعان ما التمس عادل ثبات المشهد مع انتقاله إلى مدينة الرقة وتعرفه إلى اللواء رياض شاليش الممتدة أعماله "على طول مشاريع استصلاح الأراضي الزراعية" دون حسيب أو رقيب.
وكان سقوط بغداد على أيدي قوات الاحتلال الأميركي عام 2003 بمثابة الخيبة الأخيرة التي اكتمل معها مشهد البؤس والقتامة الذي يعيشه السوريين منذ عقود، وعن أثر ذلك في نفوسهم يسجل العلو "ودعوا الأهالي بغداد بدموع حارقة، وألم مزق قلوبهم، إنه الانكسار الحقيقي الذي أدركوه قبل أن يتحدث عنه المحللون السياسيون، إنه الحدث الذي تشكل عبر 100 سنة مضت على سايكس بيكو".
في حين أرهق اليأس الشباب في الداخل "وتهشمت دواخلهم كثيرا، وتحول لعب أوراق الشدة إلى عراك مجهول السبب".
أما جبران الشاب الذي ألهم رواتنا أفكارهم وأحلامهم الوطنية على طول العمل، فقد خرج من معتقله شخصا آخرا منكفئا على نفسه وأسرته مكتفيا بما يمده الله من عمر ليعيشه بسلام.
القيامة 2011
"جاء (مارس) آذار حاملا معه رياح فرح التغيير، وكان بمثابة بارقة أمل حلم بها الكثير من الناس علها تضع حدا لمعاناتهم التي بات عمرها 50 عاما من الهوان". يقول عادل مستبشرا بأولى مظاهرات السوريين في مارس/آذار 2011.
ويسجل العلو في فصله الأخير الممتد زمنيا من عام 2011 إلى 2015، أبرز المراحل التي مرت بها الثورة بداية من السجالات التي دارت في تلك الحقبة بين مؤيدي ومعارضي النظام، مرورا بالمظاهرات والاعتصامات السلمية وما تلاها من قمع وقتل واعتقال، ووصولا لتحولها إلى ثورة مسلحة واصطدامها مع النظام وما خلفه الصراع من موت ودمار وتهجير خلال 4 أعوام.
وفي هذا الفصل "القيامة 2011" تخلى العلو عن تأريخ حوادثه بالسنوات كما فعل في فصول الكتاب السابقة، واكتفى بسرد الفواجع كما هي قاسية ومؤلمة تنهار أمامها الأزمنة والتواريخ وكل ما اعتقد رواتنا أنه ذو قيمة: الوطن، العيش الكريم، الحرية.
فجبران قضى مع المعتصمين في اعتصام ساحة الساعة في حمص في 15 أبريل/نيسان 2011، أما أديب فانعزل وأصبح كئيبا ومهووسا بالهاجس الأمني بعد موت جبران، في حين قرر عادل الهجرة إلى الخارج لينجو وابنه الصغير.
التأريخ فن وحراسة للذاكرة
لقد كان هاجس العلو في "دولة العبث" -منذ البداية- إنزال التاريخ من السياسة إلى قلب المجتمع وحياة الفرد، أي إلى "حيث تنتمي" الأحداث وآثارها، فيقول للجزيرة نت "لم أكن يوما كاتبا روائيا أو مؤرخا، غير أن ما حدث في سوريا منذ عام 2011، وما شاهدته في مدينتي دير الزور ثم دمشق، بل كافة المدن السورية أثار بداخلي سؤال وجدته مهما: ما الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟".
ويضيف "أثار هذا السؤال شهيتي للكتابة عن فترة عاصرتها وفق رؤيتي وتقديري لما جرى خلالها دون الالتزام بما قاله التاريخ الرسمي أو ما قالته الأحزاب السياسية، ومن هنا جاءت التسمية: سيرة ومذكرات، والتي تشير إلى سيرة الشعب السوري منقولة عبر مجموعة من الأشخاص الذين شكلوا البناء الأساس لكتابي".
وإن اختيار العلو لرواة من السوريين أنفسهم، ليؤرخوا لما شهدوه وعايشوه على مدى 5 عقود، جعل من قراءة التاريخ تجربة فنية وجمالية إلى جانب كونها ثقافية، فمن خلال الرواة لا نتعرف إلى الحدث السياسي فحسب ولكن إلى آثاره النفسية والاجتماعية والخطابية، وعلى ما يعتمل في دواخل معاصريه من مشاعر لا يمكن لصورة الحقيقة أن تكتمل من غيرها.
وعن ذلك يقول العلو "اعتمدت على أن يكون لكل شخص صوته يعبر من خلاله عن مشاعره الخاصة بألفاظه وكلماته الخاصة لتبدو للقارئ أكثر مصداقية وأهمية".
وإلى جانب الأثر الفني الذي تحدثه مشاركة الشخصيات/الرواة بأصواتها ضمن متن الكتاب، فإن لهذا الأسلوب السردي في التأريخ أهميته بما يحمله من قدرة على الكشف عن التفاصيل والدقائق المعيشة على هامش الأحداث الكبرى، والتي ما كان للأسلوب التقليدي أن يعتني بها بحال من الأحوال، وهو ما يسهم في حفظ تلك التفاصيل من النسيان.
المصدر : الجزيرة