الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كل الطرق تؤدي إلى... بشار

كل الطرق تؤدي إلى... بشار

23.11.2015
سامر فرنجيّة



الحياة
الاحد 22/11/2015
لبضع دقائق بعد تفجيري برج البراجنة، ساد الصمت والترقّب بهدف التأكّد من خريطة التضامن. بدأ التضامن والإستنكار يندلقان من دون المشروطية المعتادة، ودخل كورس السفارات في حملة الدعم، وبعد تفكيك قنبلة "الفيديو المزوّر" عن ابتهاج تبيّن أنّه عرس، ارتاحت النفوس. التضامن كامل. العالم كله لبنان، لبنان كله بيروت، وبيروت كلها الضاحية.
فشل تنظيم "داعش" وانتصرت الإنسانية المحضة. لكنّ لـ "داعش" حيلاً كثيرة. فبعد الضاحية، ضرب التنظيم العاصمة الفرنسية، لينسحب التضامن من لبنان وينكبّ مضاعفاً على باريس. وفي أقلّ من يومين، استُبدِل التضامن الإنساني بـ "سياسة المحاسب التضامنية" و"علم التضامن المقارن": من يتضامن مع من؟ من يلقى تضامناً أكثر؟ من لم يتضامن مع ضحايا آخرين؟ ما هي قيمة الضحايا؟ هل هناك ضحايا أغلى من غيرهم؟
الأسبوع الذي بدأ إنسانياً بامتياز، عاد وانقسم بحسب جدول قيمة إنسانية، مفاده الوحيد أن العالم، بشقّيه الحي والميت، غير عادل.
غير أنّ هذه اللعبة الحسابية المعتادة لم تستقرّ على المعادلة القديمة، أي أنّ المسلمين، أكانوا لاجئين ومهاجرين في أوروبا أو ضحايا في فلسطين والعراق، هم الضحايا المطلقون الذين يعطلون لعبة المقارنة، أو ينهونها. فمع الحرب السورية، بات هناك ضحايا أكثر إطلاقية سحبوا من ضحايا الأمس صفتهم المطلقة وقدرتهم على إنهاء لعبة المقارنة، وإنْ لم يستطيعوا أن يسحبوا منهم مكانتهم السياسية. ففي جدول التضامن المقارن، أصبح هناك قعر جديد رفض الجميع تسييسه. فانتهت هذه اللعبة بفلتان تضامني لا حدود له، أجبر أرباب التضامن إمّا على إشهار جنون تعاطفي مع الضحايا أجمعين أو على الرقص حول محاكاة تضامنية بلا حدود.
قد يعـــود هــــذا الفلتان التضامني إلى وجود ضحايا جدد، يرفض أصحاب التضامن تسييسهم، خرقوا جدول التضامن المعتاد من دون أن يرسوا نمطاً جديداً قد يطرح مخرجاً مختلفاً للعبة ذاتها. ولهذا الفشل السياسي سبب أساسي اسمه بشار الأسد وصعوبة نبذه من أصحاب التضامن مع العرب. وبدل تسييس هذه القضية، تمّ تحويلها إلى قضية إنسانية، تعيد إنتاج الأسد كحليف "تقني" لعمليات الإغاثة، يحتاج له من يتعاطف إنسانياً مع ضحايا لا معنى سياسياً لهم.
بدأ الأسد يعود من الباب الإنساني، بعدما عاد من الباب العسكري. فلم تختلف ردة فعل فرنسا في وجه الهجوم الإرهابي عن ردة فعل الولايات المتحدة بعد هجوم ١١ أيلول (سبتمبر). فردة الفعل الأوروبية المتوقعة على المهاجرين انطلقت وارتفعت أصوات اليمين المتطرف في المجر والمانيا، قبل أن تلاقيهم زعيمة "الجبهة الوطنية" مارين لوبن بمطالبتها بالاعتقال الفوري لمن لجأوا خوفاً من الاختلاط المحتمل للإرهابيين بالمهاجرين.
غير أن التحوّل غير المسبوق، قد يكون في ما أعلنه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند. فإضافة إلى تكثيف الغارات الجوية على "داعش" في سورية، أعلن أن فرنسا في "حالة حرب"، ما يتطلب تمديد حال الطوارئ ثلاثة أشهر ومراجعة الدستور للسماح للسلطات العامة بـ "التحرك ضد الارهاب الحربي"، إضافة إلى استحداث ٨٥٠٠ وظيفة جديدة في الامن والقضاء، وهذا خلال عمليات دهم متزايدة.
لقد قدّمت "حالة الحرب"، التي باتت مفتوحة كونها لا تخاض ضد دولة بل ضد حالة إرهابية، الحل الأمني على السياسي. فاللاجئون باتوا أزمة أمنية وتقنية، تتطلب إدارة أفضل لتحركاتهم وهوياتهم وأفعالهم، وهي إدارة تحتاج إلى التعاون مع جميع المعنيين، وقد يشمل هذا التعاون المصدر، أي النظام السوري الذي يتحوّل من مسبب سياسي للهجرة إلى مشارك "تقني" في عملية إدارة اللاجئين. كما أن عبثية العملية الجوية على "داعش"، وهي عبثية بسبب استثنائها النظام، باتت مدخلاً آخر لإعادة التنسيق مع النظام، والذي يتحوّل من طرف في حرب، وهو الطرف الوحيد الذي لم يحارب "داعش"، إلى مساعد عسكري لحملات جوية أبدت فشلها إذ هي غير مدعومة بعسكر على الأرض.
ما يبدو دفاعاً عن حدود أوروبا الخارجية، وهو دفاع قد يحوج إلى التعامل مع الأسد، بات مقروناً بحملة ثقافية في الداخل، رأت في هجوم "داعش" تعدّياً على "نمط حياة"، وهو تحدٍّ يمارسه ظلاميون يكرهون النبيذ الفرنسي!. وحتى الناقد الأول للرأسمالية، سلافوي جيجك، لم يستنتج من هذه الهجمات إلاّ ضرورة الدفاع عن المركزية الأوروبية في وجه الاعتداءات التي طاولت باريس. غير أن هذا الهوس الثقافي لم يعد يرسم حدوداً بين داخل حضاري وخارج ظلامي، بل أصبح يطاول فرنسا في داخلها الحميم. فبحسب دراسة إحصائية عن الفرنسيين الذين التحقوا بالجهاد في سورية، تختلف صورة الجهادي الفرنسي عن الصورة النمطية التي تربط التطرّف بالفقر والحرمان والجهل. فأكثرية الجهاديين، بحسب الدراسة، من الطبقة الوسطى ومن عائلات تُعرّف نفسها بأنّها "ملحدة". فـ "الداعشي"، بكلام آخر، بات فرنسياً، ليس فقط بالهوية، بل بالثقافة. والداخل الفرنسي ليس عرضة للهجوم فحسب، بل أصبح بذاته أرضاً خصبة للجهاديين، ما يتطلب توسيع المراقبة لجماعات كانت سابقاً خارج دائرة الشك. وفي هذا الهوس بالثقافة، يخرج بشار مجدّداً، كحليف ثقافي في وجه الظلامية، فيما الفارق بينه وبين فرنسا أن عدد الظلاميين عنده أكبر.
ربّما كانت هناك إمكانية لابتكار رد أكثر إنسانية وأقلّ أمنية وثقافوية على هجوم "داعش". بيد أنّ الردّ المتوقع باتت له نتيجة واحدة في المشرق العربي، وهي عودة بشار بأشكال مختلفة، بما يحاكي حاجات اليمين المتطرف واليسار المتعاطف والأمن الغربي. وقد لا يكون هذا عائداً لعبقرية الأسد أو لضعف مخيلة الفرنسيين، بل لسبب بنيوي أعمق. فهناك تحوّل في السياسة الدولية بات يتضح أكثر فأكثر، وهو أن الحدود التي كانت تنظّم العلاقات الدولية باتت تنهار: حدود تفصل بين الدول، وحدود تفصل بين حالتي السلم والحرب، وحدود تفصل بين الشعوب والثقافات. بكلام آخر، هناك نموذج تُعنى به أطراف كثيرة وقد بدأ يزول: عنوانه الأوضح كان "الثورة السورية". التمسّك ببشار، في هذا المعنى، قد يكون آخر محاولة لعالم ما زال يؤمن بحدود الماضي، ويتمسّك به كآخر حامٍ لهذه الحدود. وأي خروج من عبثية التمسّك بعالم يزول يكون بالعودة إلى بداية المقالة وإلى تسييس ضحايا الثورة السورية.