الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كنا عايشين

كنا عايشين

17.07.2016
د. يحيى العريضي


 كلنا شركاء
السبت 16/7/2016
كنا عايشين” عبارة رائجة في حياة السوريين وتمس قضيتهم في الصميم بعد خمس سنوات من ثورتهم. العبارة تحمل حكم قيمة وتعكس موقفاً وتصف حالة وتكثّف للبعض ما آلت إليه الأمور في سورية وفيما بينهم داخلاً وخارجاً. العبارة تحفِّز على البحث، تغور في غياهب الماضي، تهتك ستر الحاضر، وربما تقفز بنا الى المستقبل وأقدامنا في الهواء وهاماتنا تحت وحول الزمن.
طرحت العبارة ضمن سلسلة من الأسئلة تشع على كنهها، وماذا تعكس، وما تبعاتها، ومن يطلقها، ولماذا، وبأي سياقات تُقال، وما رأيهم بها، وما وراءها،، وما ردة الفعل على إطلاقها، وهل من بديل لها. كان التجاوب مذهلاً. قارب مَن أدلى بدلوه في الموضوع الثلاثمائة سوري وسورية في الداخل السوري والخارج.  قرأت كل رأي بتمعن وتجرد. المعطيات عبارة عن مساهمات مختلفة الحجوم والأهمية عبر وسائط التواصل الاجتماعي. أخضعت المعطيات لمعايير قريبة من الدقة والموضوعية لا مجال لتفصيلها هاهنا.
رغم دخول البعض في الفروقات الدلالية والفلسفية لمفردتيّ: “حياة” و “عيش” وفي تقارب أو تطابق أو اختلاف عبارتيّ: “كنا عايشين” و “كنا أحياء”، ومحاولة ربط العيش بكرامة مع معنى الحياة ، وبدونها بـ “العيش”؛–رغم ميلي أكاديمياً للغوص بهكذا مسألة دلالية- إلا أنني أرى عيش الواقع وترجمته يسبق ويتجاوز اختيار المفردات والعبارات وفلسفتها. فكل من ساهم في مقاربة الموضوع معني مباشرة أكثر من أي عالم لغة أو خبير دلالة ومفردات، لأن عيش المسألة والالتصاق بها وتجربتها والغوص في نسيجها أهم بكثير من التعبير عنها لغوياً أو فلسفتها.
خرجت بخلاصات حول المسألة المطروحة تقدَّم أساساً نظرياً وملامح فلسفة انتفاضة الشعب السوري وتعطي بعض المؤشرات نحو مستقبل ننشده. ربما الأهم من ذلك هو ان الخلاصات التي تم التوصل إليها قد تساهم بتشكيل صادّات نفسية لمواجهة حرب نفسية غير مباشرة تسعى إلى هزيمتهم. وهذه الصادات قد تتطور الى موقف واعٍ صامد يؤسس للـ “حياة” لا لمجرد “العيش”.
كُّنْه العبارة وماهيتها
كان هناك شبه إجماع بين الذين ساهموا بمقاربة المسألة ان عبارة “كنا عايشين” تفيد  [البقاء على قيد الحياة] حتى ولو على حساب آدمية الإنسان وكرامته؛ فالحياة بمفهومهم هي العيش بكرامة. ولكن عندما يحدد “النظام” نوع الحياة ومكانها وكيفيتها تماماً كما يقرر السجن أو الاقتلاع أو التشريد أو الموت، فلا تكون هذه حياة أو حتى عيش. وهذا العيش الذي تعنيه العبارة عيش منقوص تغيب فيه الحرية والإرادة لسواد الرعب وتعميمه وللاستغلال والاستعباد والذل والاهانة؛ حيث كانت الغالبية مهمشة مقموعة منهوبة محطمة. وكأنك تقول إننا “كنا عايشين” لأن الموت لم يات بعد. وإذا كانت الحياة للأكل والشرب والتكاثر، فعبارة “كنا عايشين” لا غبار عليها؛ ولكن الإنسان –كما يقول المثل- ياكل ليعيش، لا يعيش ليأكل. زد على ذلك، ان البعض رأى أن العبارة /وقحة/ لا تليق إلا بالقطعان. تعكس العبارة ترجيح كفة الماضي، لقتامة الحاضر؛ تعكس رضوخاً للقمع بسبب الخوف.
في البحث إقرار من قبل المساهمين بأن حالة من الخنوع المقَنَّع كانت تسود المجتمع السوري. أحدهم يقول بالعامية: ” كنا ماكلين هوا وساكتين” وذكر آخر اقتباساً لشبيحة النظام: ” كان السيد الرئيس معيشكن ويعلمكن ومفضل عليكن” وقال ثالث: العبارة تصلح لعنوان رواية على شاكلة روايات /جورج أورويل/ “1984” و “مزرعة الحيوانات
من يُطلق العبارة، ولماذا
يطلق العبارة مزيج من التركيبة المجتمعية السورية تتراوح بين طيف مؤمن بالثورة، ولكن خسارته تتجاوز مسألتي الحياة والعيش- … هؤلاء فقدوا كل شيء وخاصة من يحبون؛ ولم  تعد الحياة بدونهم تعني لهم شيئا- مروراً برمادي مصلحي يبغي العيش حتى ولو على حساب الكرامة- وصولاً إلى مُبَرمج كجزء من منظومة الاستبداد التي تشيع العبارة بقصدية. ضمن كل واحد من هذه الاطياف هناك تفرعات لا حصر لها؛ ولكن يتمحور مطلقوها على الخطوط التالية:
الجبناء، والانتهازيون، والمستكينون، والتبريريون، والصامتون، والمستفيدون، واللصوص، والمرتشون
معدوموا الحس الاخلاقي
من وقف مع الطاغية مفضلاً العبودية على الكرامة
ذوي الحضوة الذين لم يعيشوا الظلم والقهر
هؤلاء اللذين تضررت مصالحهم… أعضاء حزب: “من يتزوج أمي يصبح عمي
السلبيون اللذين عيشهم وموتهم واحد
وفي تفصيلات بعض من يطلق العبارة أولئك اللذين توقعوا الخروج من السيء الى الأفضل وبسرعة؛ فأصيب بخيبة أمل. هناك أيضاً من يرى انه خرج من سيْ إلى أسوأ…. بعض هؤلاء يقول: ” كنّا بطاغية، فأصبحنا بطغاة.
يقولها أيضاً، وبمرافعة خبيثة لا يمكن تصنيفها إلا كلام حق يُراد به باطل مغلفين عباراتهم بفلسفات تتحدث عن عدم جاهزية سورية والسوريين للثورة ومن هنا كانت الضريبة عالية. كما ان هؤلاء يدخلون في فلسفة الحرية والكرامة والعيش عندما يقولون إن “الكرامة” لم تكن مسالة ملحّة في سورية فها هو ” المستقبل مجهول ومخيف وبلا آفاق”. لهؤلاء أيضاً مرافعات تقول: ” ها نحن كنا تحت استبداد؛ والآن أضفنا للاستبداد ظلامية الذبح والتكفير”. الأخطر من كل ذلك مسالة الموازنة بالسوء  فيما وصلت إليه سورية حيث تبدو مرافعاتهم منطقية وكلامهم حق: ” إن ما نحن فيه هو نتاج نظام مجرم وثورة فاشلة” يسرد هؤلاء واقع الحال السوري قافزين عن جوهر المشكلة والإجرام الذي أوصل السوريين إلى هكذا حال. يقول هؤلاء: ” نعيش الآن ببلد ممزق بلا هوية. إن كنا في الخارج هناك ذل اللجوء. لا أحد يسال عنّا…. كنّا عايشين بذل، والآن الابادة والقتل والتشريد يلاحقنا
إطلاق العبارة بقصدية
عندما تُطلق العبارة بقصدية فهي تهدف الى ترويض أي مشاعر ثورية أو تغييرية وخاصة عندما تجري المقارنة بالأسوأ. فالعبارة من فصيلة عبارات درجت في المجتمعات العربية كـ ” حطّ راسك بين الروس وقول يا قطّاع الروس” و ” المشي الحيط الحيط ويا رب السترة” و “من رضي عاش” و ” القناعة كنز لا يفنى
يستند مطلقوها على طول الأزمة ودمويتها ودمارها للحياة السورية… ويندر أن يذكر مستخدموها العبارة الأساس التي أطلقها النظام بداية: ” أحكمها أو أدمرها”. يستفيد مطلقوها من تخلي العالم عن السوريين، وحتى لا فاعلية من ادعوا صداقة السوريين. ويستندون كذلك على حالة الاحباط السائدة ويسعون الى تعميقها كي يحدث الانسحاق النهائي والهزيمة المؤكدة. يقفز هؤلاء لتحقيق هدفهم الى المستقبل فيقومون بإقفاله عبر قولهم : “الماضي مستبد والحاضر مستبد والمستقبل لن يولّد لنا إلا الاستبداد”… كل ذلك يصب في دعم خفي للنظام دون الإفصاح عن ذلك.
هل خُطِّطَ لذلك؟
ببساطة لا شيء عبثي، عندما يكون الشعب غير القابل للهزيمة خصمك، فلا طريق أمامك إلا سحقه نفسيا ليعود إلى “حضن الوطن”؛ وهذه ربما أنجع الطرق للقيام بذلك. عبارة “كنا عايشين” برأي بعض من ساهموا في هذه الدراسة مخابراتية، خُطِّط لها للمقارنة بين واقع سابق (معروف لديهم أنه سيْ) بواقع حالي أكثر سوءاً؛ وفي ذلك الهزيمة والعودة الطوعية إلى الحضن المخلّص. حتى المخابرات تُصوّر كواقع أفضل من وصول الناس إلى وضع يقتل الأخ أخاه.
ردة الفعل على إطلاق العبارة والبديل
هناك شبه إجماع عند مَن ساهموا في تقديم الاجابات على هذا السؤال بأن السوري كان يعيش بغبن برعب وظلم واضطهاد وبجهل وتجهيل متعمّد وتمييز عنصري طائفي؛ ومقابل بقائه كان فقدان الحياة الآدمية والدعس على الحقوق. قال المساهمون: “كنا نعيش القهر ونصمت لأن السجن او الموت مصيرنا”، ” كنا نعيش والعبودية تلازمنا”. ومن هنا، فإنه عندما تضع الحرب اوزارها، سيكتشف الجميع اننا “لم نكن عايشين”؛ ولهذا لا نريد لأولادنا وأحفادنا أن يعيشوا ما عشنا. عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء؛ نحن نموت الآن، ليحيا القادم بحرية؛ فهناك ما هو أهم بكثير من الأكل والشرب والتكاثر؛ المخاض الأليم يولّد الأمل.
من يطلق عبارة “كنا عايشين” تليق به، ومباركة عليه؛ ولكن لابد أن نتعاون لإلغائها. على الأقل نفكر ببدائلها: “كنّا مفكرين حالنا عايشين” أو “كانوا عايشين” أو “كنا ميتين، والآن نعيش ونحيا” أو “بدنا نعيش” أو “نستحق الحياة وتستحقنا”. حقنا أن نعيش ونحيا بكرامة وحرية؛ “ويا محلاها الحرية