الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كورونا درس البعوضة للأسد

كورونا درس البعوضة للأسد

06.04.2020
باسل طلوزي



العربي الجديد
الاحد 5/4/2020
لن ينسحب الفيروس الصغير قبل أن يُعلّم كوكبنا "الكبير" سلوك التواضع. هذه هي معركة كورونا معنا، لمن لم يدرك غاية الحرب التي وضعها الخصم بعد.
سبقَنا المتنبي بقرون، حين حذّرنا من الاستهانة بالكائنات اللامرئية: "إن البعوضة تُدمي مقلة الأسد"، غير أن "المستأسدين" لم يحفظوا الدرس، على الرغم من أنهم فقدوا أعينهم من دون جسومهم، فراحوا يتخبّطون بـ"جسوم البغال وأحلام العصافير". ثم جاء التحذير أغزر وضوحًا على لسان جوناثان سويفت في "رحلات جيلفر" الذي وضعته دراما البحر في مواجهة عالم "الأقزام" الذين شدّوا وثاقه إلى الأرض التي لم ينظر إليها في حياته قط، فكانت لحظة اللقاء الصادمة التي جعلت "العملاق" أصغر من قزم.
يحمل كورونا، إلى جانب شيفرته الوراثية، شيفرات فلسفية وسياسية واجتماعية شتّى، يجدر بنا قراءتها بتأمّل عميق، إنْ قرّرنا القضاء عليه قضاء مبرمًا، لا قضاء طبيًّا وحسب؛ بدليل أن الحل الطبي وحده لم يستطع منعه من إعادة تكييف نفسه، وتطويرها على مدى العقود الماضية.
أغلب الظن أن الفيروس الجديد ليس عضويًّا فقط، بل ثمّة عوامل أخرى أسهمت في تكوينه، وأهمّها تلك العلاقة التاريخية الملتبسة بين من يلعبون دور "العمالقة" ومن استكانوا إلى وهم كونهم "أقزامًا"، فجاء كورونا حاملًا "صدمة اللقاء" التي أسقطت "المارد" من خيالات الظلّ العملاقة، فيما سحبت عن عيون الطرف المقابل غشاوة الوهم التي سجنته في زجاجاتٍ ضيقةٍ، لم تكن تحتاج إلا لمسحةٍ طفيفةٍ، ليكتشف السجين أنه هو العملاق الحقيقي.
صحيحٌ أن الفيروس لا يفرّق بين ثريّ وفقير، غير أن الثمن الذي يدفعه الثريّ أشد فداحةً، وإلا فأي "حياة طبيعيّة" يشتاق الفقير للعودة إليها بعد انتهاء مدة الحجْر الصحي؟.. هل يقصد حياة البطالة والتشرّد، أم يعني حياة الفاقة والعوز؟ فيما يقيس الغنيّ دقائق الحجْر بعدد الصفقات التي لم يستطع اقتناصها، وبالرصيد الذي توقف عند رقم معين. تلك الشيفرة الاجتماعية للفيروس.
أما الشيفرة السياسية، فهي الأهمّ، والتي تجلّت في ذلك الاضطراب الذي حلّ بدولٍ عظمى، وأسقطها من عليائها، بحثًا عن كمّامة، ودفعت رئيسًا أميركيًّا متبجّحًا إلى إصدار أمر عاجل إلى شركةٍ ضخمةٍ اعتادت تصنيع المحرّكات النفاثة العملاقة بتحويل صناعاتها إلى أجهزة التنفس. كما جرّه الفيروس الضئيل من قرنيْه ليتصل صاغرًا بالرئيس الصيني الذي كان يسخر منه في بداية الأزمة إلى الحدّ الذي ألصق اسم الفيروس ببلده، ليتوسّل منه المساعدة، وليستجديها أيضًا من دول أخرى كانت، في ما مضى، أصغر من الفيروس في عينيه. وعلى غراره، أيضًا، رأينا عمالقة أوروبا يذرفون الدموع، وهم يرون انهيار دولهم، بأنظمتها الصحية المنيعة، أمام أعينهم.
أما عن تحرّكات الفيروس في أوساط "عمالقة" الشرق، فشأنهم مغاير؛ لأن الفيروس ذاته لا يراهم إلا بمجهرٍ مكبّر. هم يعرفون جيدًا أنهم أقزامٌ مأمورون من أسياد ما وراء البحار والأنهار، ولا يمارسون أدوار العملقة والتجبّر إلا على شعوبهم فقط.. أيتام على موائد الغرب، وأسياد على مقدّرات بلادهم. ولئن لم يكن لهم وجود في عالم ما قبل الفيروس، فلن يكون لهم مكان في ترتيبات الفيروس للعالم الجديد. أما الرهان فهو فقط على شعوبهم التي في وسعها أن تحطم زجاجات سجنها، وتنطلق لتصنع حياتها "الطبيعية" التي ظنّت أنها كانت خلف القضبان، وما الحياة خارجها إلا محض حياة "صناعية" لا غير.
ين "المرئي" و"اللامرئي"، خرج كورونا بحلّته الجديدة ليوحّد العالم وبائيًّا بعد أن عجزت آلاف الكوارث البشرية عن توحيده. أخفقت مجاعات واحتلالات ومظالم وتفاوت ثروات وغياب عدالات، ونجح فيروسٌ ضئيل. وفي ذلك درس البعوضة للأسد وعبرة الأقزام للعمالقة.