الرئيسة \  واحة اللقاء  \  كيف صارت دمشق أقرب إلى تونس من طرابلس؟

كيف صارت دمشق أقرب إلى تونس من طرابلس؟

06.08.2015
نزار بولحية



القدس العربي
الاربعاء 5/8/2015
تدوينة نشرها سفير معتمد في العاصمة تونس على حسابه الشخصي في موقع فيسبوك، جلبت أنظار المتابعين واهتمامهم، بعد أن احتوت تأكيدات واضحة وصريحة من جانب المدون على أنه لن يملأ حقائبه عند المغادرة تحفا وهدايا نادرة وثمينة فقط، بل سيضيف إلى لائحة الاغراض الشخصية المهمة شيئين آخرين، قد لا يخطران على البال، ويراهما على درجة من الاهمية والرمزية، وهما القليل من أكلة شعبية معروفة تسمى "البسيسة" ومعها نسخة من الدستور الجديد.
السفير سيباستيان بوليو، قال في التدوينة، إنه سوف يأخذ كل تلك الأغراض معه كتذكار للايام والشهور التي امضاها في بلد ظل يردد باستمرار انه يبقى بمنزلة بلده الام. أما قراره الاستعراضي المفاجئ وغير المعهود، الذي اختار أن يعلنه اياما قليلة قبل ترك منصبه والعودة إلى اوتاوا في اعقاب انتهاء مهامه على رأس البعثة الكندية، فقد كان مصحوبا بصورة ظهر فيها واقفا فوق ربوة تطل على شاطئ بضواحي العاصمة تونس، وهو يرتدي قميصا كتبت عليه عبارة "احب تونس" باللغة الانكليزية. ومن الطبيعي أن تثير حركة المسؤول الكندي بعض اللغط والتعليقات، وأن يرى فيها الكثيرون جزءا من حملة اتصالات وعلاقات عامة، اختار السفير أن يبدأها في نهاية عهده، ربما حتى يمهد من خلالها الطريق امام خلفه ويخدم بها في النهاية مصالح الدولة القصية التي ارسلته إلى بلد صغير في اعلى الشمال الافريقي، لا تربطها به علاقات أو روابط قوية أو مصالح بحجم تلك التي تشده منذ عقود إلى القارة العجوز القريبة منه بحكم التاريخ والجغرافيا. لكن الإشكال الحقيقي لا يبدو في مجرد البحث عن صدق السفير في مشاعر الود التي أظهرها، أو في الغايات والأهداف الحقيقية التي تقف وراءها، بقدر ما يتمثل في استفاقة التونسيين على مشهد تعمق فيه انقلاب المسلمات والضوابط القديمة رأسا على عقب، وتحول فيه الصديق البعيد، أو هكذا أريد له أن يكون إلى الاكثر فهما واطلاعا على مواطن القوة والضعف، والأقرب حتى روحيا ووجدانيا إلى قادة البلد وحكامه، من كل شقيق أو جار. ولأجل ذلك لم يكن غريبا أن يختار السفير الكندي المغادر رمزين متناقضين قد يلخصان إلى حد كبير حالة التخبط التي تعيشها تونس اليوم، بعد أن عجزت عن حسم وجهتها بشكل صارم وواضح، ولم تعرف بالضبط إن كان الافضل والاسلم لها أن تميل إلى "البسيسة" أو اشباع رغبات البطون، أم تنحاز بقوة إلى الدستور وحلم الحريات والحقوق.
المثير في الموضوع أن تلك الحالة التي بدأت بالانحسار التدريجي في الداخل، رغم ظهور بعض جيوب المقاومة لنزعة الالتفاف على الحريات، تحت مبررات ودواعي الحرب على الارهاب، قد تلاشت وفقدت جذوتها وبريقها بالكامل تقريبا في اداء وتحرك الدبلوماسية التونسية في الخارج. اما الدلالات على ذلك فلم تعد تخطأها العين، ولعل اكثرها شيوعا وتعبيرا موجة الهرولة الصيفية نحو دمشق ونظامها، مقابل شحذ السكاكين والسيوف وأبواق الدعاية والاعلام ضد طرابلس الغرب، وحفر الخنادق والحواجز الاصطناعية بوجه حكومتها غير المعترف بها دوليا. إنها المصالح العليا للدولة هي وحدها التي توجه وتقود السياسة الخارجية للبلد، يقول الرئيس الباجي قائد السبسي في الندوة السنوية للسفراء والقناصل التونسيين. وتلك المصالح قد لا تتفق بالضرورة مع آراء الدبلوماسيين ذاتهم، وحتى مع آراء الرئيس نفسه في بعض الحالات مثلما يضيف، قبل أن يشير إلى أن هناك "ضوابط" ينبغي على الجميع احترامها والخضوع لها، لكن هل كان يعني بالضوابط تلك التوجهات التقليدية المعروفة التي رسمها الرئيس الراحل بورقيبة والتي كان هو واحدا من منفذيها، لما تقلد لفترة منصب وزير الخارجية في عهده، أم كان يقصد معرفة الاشارات والمتغيرات الاقليمية والدولية مبكرا، والاصطفاف الجيد والمناسب، بحسب ما تشير اليه ابرة بوصلتها التي تكاد لا تستقر على حال؟ لا شك أن قياس درجة التحفز للمتغيرات يقتضي المفاضلة الصعبة بين الخيارات، ومن الطبيعي أن يقود ذلك إلى ترجيح كفة على حساب اخرى. وهو ما حصل بالفعل، حين اتخذت الحكومة التونسية الجديدة موقفا من عاصمتين عربيتين تشهدان وضعا بالغ الحساسية والتعقيد، وهما دمشق وطرابلس الغرب. أما كيف تمت المفاضلة وبأي شكل وصورة وما الذي فعلته تونس تحديدا مع العاصمة الاولى، أي دمشق ونظامها، فالجواب الرسمي الذي يقدمه وزير الخارجية في مؤتمر صحافي، هو انه حصل "سوء فهم للموضوع حيث يوجد فرق بين تمثيل دبلوماسي على مستوى سفير وتمثيل دبلوماسي مقتصر على قنصل عام مهمته ادارة شؤون الجالية التونسية في سوريا"، أي أن الجمهور الواسع والبسيط لم يفهم ربما لفرط سذاجته وغبائه، أن هناك درجات في التمثيل وانه تماما مثلما يحصل في كل الروايات فان هناك شخصيات مهمة ومحظوظة تستأثر بمفردها بادوار البطولة، فيما يقتصر وجود اخرى على لعب ادوار الكومبارس فقط. ووفقا لذلك واذا ما فهمنا الوزير جيدا هذه المرة فاننا سنبادر إلى القول بان الاعلان عن ارسال قنصل إلى دمشق بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع نظامها قبل نحو ثلاث سنوات من الان، ليس سوى تمثيل لدور ثانوي على هامش المسرحية الكبرى التي يستمر العالم بمتابعتها بشيء من الدهشة والذهول، ولا يملك ترف التنبأ لا بمصير ابطالها ولا حتى تخيل أو توقع مشهدها النهائي أو فصلها الاخير.
أما لماذا لم تقدم السلطات على اتخاذ خطوة التطبيع الكامل مع نظام بشار بعد دخولها على خط المواجهة المشتركة مع من تصفهم بالتكفيريين، فالتفسير الذي يقدمه الدكتور المرزوقي، في مقابلة نشرتها صحيفة "هافينغتون بوست عربي" في السابع والعشرين من الشهر الماضي، هو أن هناك اطرافا دولية لم يذكرها بالاسم هي التي طلبت من الحكام الحاليين عدم الاقدام على ذلك، ملخصا الموضوع في أن قراره السابق بقطع العلاقات كان من "منطلق سيادي". أما قرار استئنافها الذي اتخذ بعد مغادرته السلطة، فقد كان من" منطلق ضغط دولي" على حد وصفه. لا يلتفت الدكتور هنا إلى تأثيرات داخلية وخارجية تعمقت على مر الشهور وفعلت فعلها في النفوس، وجعلت معظم التونسيين لا يجدون طائلا أو هدفا واضحا أو مفهوما، لا من وراء القطع ولا حتى من وراء العودة، ولا يقر صراحة بان غاية ما في الامر هو أن العملية كانت مجرد اقتراب تكتيكي من منطق الدولة الكليانية التي تمسك السلطة بمخالبها، وتقبض عليها حتى الرمق الأخير، وتحرص على أن يتم كل ذلك وفق تبادل مدروس للاشارات مع السبع الكبار التي صارت ترى ألا حل في سوريا الا بوجود نظام بشار واستمراره في السلطة، خصوصا بعدما زاد الاتفاق النووي الاخير مع ايران في تكريس تلك الرؤية ودعمها. ومن المؤكد أن الدخول في ذلك المنطق يجعل السلطات منساقة بالكامل وراء الارادات الخارجية وليس مهما في تلك الحالة أن تصبح دمشق اقرب إلى تونس من طرابلس لانه لم يعد هناك من معنى أو قيمة للقرب الجغرافي وحتى التصريحات الرسمية من قبيل تلك التي رددها وزير الخارجية التونسي، في حديث لصحيفة "الصباح" المحلية من انه "لا استقرار في تونس وكامل المنطقة بدون تسوية الملف الليبي سياسيا، وعودة الامن والاستقرار إلى الشقيقة ليبيا"، تبدو كلها استعراضا لغويا لا يقدم أو يؤخر شيئا مادامت تونس قد نفضت يديها تماما من جارتها الجنوبية وتركتها تواجه مصيرها منفردة مع السبع الكبار، التي تتأهب لضربة وشيكة قد تعيد رسم التوازنات داخلها ثم ايضاعلى اطرافها. لكن هل حصل الجانب التونســــي قبل وبعد ذلك على تطمينات بأن نيران الحريق الليبي، متى اشتعلت، لن تطال بيــــته وتجعلــــه هدفا سهلا ومباشرا لجنونها؟ لا أحد بامكانه النفــي أو الجزم، فقواعد اللعبة التي رسمها الكبار تبدو واضحة ولا تحتمل اللبس وهي تفــــترض على الطرف المقابل، إما السير خلفها إلى الآخر بدون شــــوشرة أو اعتراض، أو رفضها وتجاهلها بشكل قاطع منذ البداية، وهو ما يلوح شبه مستحيل في الحالة التونسية. بقي أن الدرس المستخلص من كل ذلك على غاية من السهولة والبساطة، وهو ألا مكان ابدا للعواطف الجياشة في رسم التوجهات والسياسات، اللهم الا في حالة المجاملة الدبلوماسية الواعية والمحسوبة من قبيل تلك التي بادر بها السفير الكندي المغادر في تدوينته الاخيرة على فيسبوك.
٭ كاتب وصحافي من تونس