الرئيسة \  تقارير  \  “فلاش باك”.. كيف صنعت روسيا إمبراطوريتها العظمى؟

“فلاش باك”.. كيف صنعت روسيا إمبراطوريتها العظمى؟

23.03.2022
ساسة بوست


ساسة بوست
الثلاثاء 22/3/2022
مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، استرجع البعض ذكريات الإمبراطورية الروسية، التي كانت في بعض الأحيان القوة الأكبر في العالم، ورأى البعض أن تصرفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يحلو للكثيرين وصفه بـ”القيصر”، ليست سوى مرحلة تمهيدية في فصل آخر من فصول روسيا الإمبراطورية.
في البدء كانت دولة “كييف روس”، التي ظهرت على مسرح التاريخ منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، وكانت عاصمتها مدينة كييف الحالية، والتي يعود إليها التاريخ المشترك لكل من روسيا وأوكرانيا، تأسست “كييف روس” على يد السلاف الشرقيين، واتسعت لتشمل معظم أراضي أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، وكان أعظم ملوكها ياروسلاف بن فلاديمير الأول، والملقب في التاريخ بـاسم “ياروسلاف الحكيم” وفي عهده جرى توحيد الإمارات الواقعة بين بحر البلطيق والبحر الأسود.
منذ القرن الثالث عشر، تعرضت “كييف روس” إلى غارات مغولية سرعت من سقوطها، سقطت كييف بيد المغول عام 1240 وتعرضت لدمار شديد، وهاجر الكثيرون هربًا من هجوم المغول إلى الشمال الشرقي، حيث كانت التربة أفضل والأنهار ملائمة أكثر للتنمية التجارية، وهي المناطق التي شكلت فيما بعد نواة الدولة الروسية الحديثة، سيطر المغول على البلاد نحو قرنين من الزمان، كان على حكام “دوقية موسكو الكبرى” (عُرفت باسم موسكوفي، موسكو لاحقًا) أداء جزية سنوية للتتار.
في مقابل الاعتراف بسلطة المغول (مثلهم في ذلك الوقت ما عرف بمغول “القبيلة الذهبية” الذين اعتنقوا الإسلام والتي أسسها بركة خان) سُمح لأمراء جنوب شرق روسيا بالتصرف في الحكم كما يشاؤون، لم يركز أولئك الأمراء في البداية على محاربة التتار، ورأوا أن الغزاة القادمين من الغرب (مثل السويديين والليتوانيين) يشكلون تهديدًا أكبر لطريقة الحياة الروسية من المغول، كما عمل أمراء موسكو تدريجيًّا على توسيع نفوذهم، متبعين في ذلك أساليب الزواج والدبلوماسية والفتوحات العسكرية، ليجري تدريجيًّا “توحيد” الأراضي الروسية، لتتحول من قرى متناثرة في العصور الوسطى، إلى نظام إقليمي متماسك.
استطاعت موسكو التحرر من الهيمنة المغولية بحلول القرن الخامس عشر، على يد إيفان الثالث، الذي توقف منذ عام 1480عن دفع الجزيرة لخانات القبيلة الذهبية، فاستطاع القضاء على آخر الخلافات بين الأمراء شبه المستقلين وتوحيد الأراضي الروسية كما حاول طرح روسيا بصفتها وريثًا للإمبراطورية البيزنطية، وتزوج من صوفيا باليولوغ ابنة شقيق آخر إمبراطور بيزنطي، كما أن إيفان الثالث كان أول من تلقب بـ”القيصر”.
كانت روسيا على بعد سنوات من الرعب والدم بعد إيفان الثالث، حيث خلفه ابنه إيفان الرابع الذي تلقب باسم “إيفان الرهيب”، فقد كانت له أساليب مروعة في التعامل مع أعدائه (وأحيانًا أقرب أصدقائه وعائلته)، كان إيفان الرهيب يتلذذ بالإعدامات الشنيعة، بما في ذلك أساليب الخوزقة ونزع الأحشاء، وفي فورة من الغضب عام 1581، قتل ابنه وخليفته إيفان إيفانوفيتش وشن حربًا ضد طبقة النبلاء الروس (عرفت باسم البويار) وصادر أملاكهم، وأسس لذلك شرطة خاصة كانوا يرتدون ملابس سوداء ويتخذون رأس كلب وفرشاة راية لهم، جاب هؤلاء الشرطيون الريف لسلخ ضحاياهم أحياء، وكانوا يغلونهم في مواقد أمام أقربائهم.
أنتج حكم إيفان الرهيب حالة من تفكك الدولة المركزية في روسيا، وبعيد وفاته عام 1548، تنافس البويار والأمراء على السلطة، فيما عُرف بـ”زمن الاضطرابات”، حيث اندلعت الحرب الأهلية حتى عام 1613، وتعرضت روسيا لغزوات من بولندا والسويد، وبعد دحر الغزاة، اختارت الطبقة الحاكمة صبيًا صغيرًا يبلغ من العمر 16 عامًا للتتويج بالعرش، هو مايكل رومانوف، الذي سيؤسس لسلالة رومانوف، وهي العائلة التي ستتربع على عرش روسيا القيصرية، ومن بعدها الإمبراطورية الروسية، حتى القرن العشرين.
خلال العصر القيصري، توسعت روسيا بشكل كبير وصارت قوة ضاربة يُحسب لها حساب، بدأ ذلك بضم إيفان الرابع “خانية قازان التترية” عام 1552م، ثم عزز القياصرة نفوذه شرقًا نحو سيبيريا، وبعد حروب دامت نحو 200 عام، تمكن الروس من هزيمة التتار في سيبيريا، وإخضاع شبه جزيرة القرم بشكل كامل.
تمتد سيبيريا على مساحة واسعة تشمل نحو سُدس مساحة الكرة الأرضية، وبضمها صارت الدولة الروسية أكبر إمبراطورية برية في العالم في ذلك الوقت، وقد أثبت الروس جدارتهم في الحروب العديدة التي خاضوها ضد الممالك السويدية والعثمانية الكومنولث البولندي-التايواني.
عندما وصل القيصر بيتر الأول (الذي تلقب فيما بعد بـ”بطرس الأكبر”) إلى الحكم عام 1682، كانت روسيا على أبواب مرحلة أخرى من التوسع، أسس بطرس الأول أسطولًا عصريًّا متطورًا، وأدخل إصلاحات في الجيش، كما طور النظام التعليمي كمًّا وكيفًا، بالإضافة إلى تشجيع تطوير العلوم والتجارة والصناعة، كما حوَّل البلاد إلى نظام حكم ملكي مطلق، حيث صارت سلطة الإمبراطور فوق أي قانون، وباتت الكنيسة خاضعة بشكل كامل لسلطة الدولة العلمانية، كما أعلن في 22 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1721 تحوُّل روسيا من قيصرية إلى إمبراطورية، الأمر الذي كان يعني اضطلاع موسكو بدور أكبر في الشؤون العالمية بعد سنوات من العزلة.
خلال القرن التاسع عشر، استمرت حدود الإمبراطورية الروسية في التوسع، ففي عام  1783م، جرى التوقيع على  اتفاق انضمام جورجيا إلى الإمبراطورية الروسية، وبعد حرب دامت 10 سنوات بين روسيا وإيران، اعترفت الأخيرة بانضمام داغستان وشمال أذربيجان إلى روسيا. كما استمرت الحروب مع تركيا والصراعات مع القوى الأوروبية.
انخرطت موسكو عام 1805 في تحالف مع إنجلترا والنمسا ضد نابليون الذي اجتاحت قواته روسيا عام 1812، لكن مقاومة الروس وظروف البرد القارس أنهكت الغزاة الفرنسيين، (دخل الأراضي الروسية 550 ألف مقاتل فرنسي وفي ديسمبر (كانون الأول) لم يبق منهم غير 1600 مقاتل)، وبموجب قرارات مؤتمر فيينا عام 1814 جرى تقسيم بولندا، حيث انضم جزء كبير منها بما فيها العاصمة وارسو إلى الإمبراطورية الروسية.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت حكومة القيصر نيقولا الثاني تمر بأزمات عاصفة، وطالبت شرائح واسعة من الفلاحين بقوانين عادلة لتنظيم الأجور والأراضي، وانتشرت المبادئ الماركسية بين عمال المصانع، وتذمرت القوميات المهضومة تحت حكم القيصر، واتسع نطاق المقاومة للحكومة، وتدهورت الأوضاع حتى أطيح حكم القياصرة على يد الثوار الشيوعيين عام 1917 فيما عُرف بـ”الثورة البلشفية”.
طبق البلاشفة مجموعة من الإصلاحات، ففصلت الكنيسة عن الدولة، وجرى تأميم المصانع، وتحققت رقابة العمال عليها، وفي 30 ديسمبر (كانون الأول) 1922 أُعلن قيام “اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية” التي ضمت جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، وجمهورية أوكرانيا، وجمهورية بيلاروسيا، وجمهورية ما وراء القوقاز.
اختيرت مدينة موسكو عاصمة للاتحاد، وجرى تبني دستور موحد للبلدان الأربعة عام 1924. وما بين عامي  1924 و1940 توسع الاتحاد السوفيتي ليضم جمهوريات أوزبكستان وتركمانستان (1924)، وطاجكستان (1929)، وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان (1936)، وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ومولدافيا (1940).
دخل الاتحاد السوفيتي مرحلة جديدة مع وصول جوزيف ستالين إلى السلطة عام 1924، خلفًا لفلاديمير لينين، فأصدر ستالين دستورًا جديدًا مارس بواسطته ديكتاتورية مطلقة في الحكم، كما مارس تطهيرًا عرقيًّا عانت منه شعوب الجمهوريات والمناطق الإسلامية في القوقاز وتركستان وتتارستان، فهدمت آلاف المساجد والمؤسسات الإسلامية، وحُظرت اللغة العربية، كما فُرضت على المسلمين اللغة الروسية والأيديولوجيا الشيوعية.
رغم العلاقات الطيبة التي جمعت ستالين بهتلر في بداية الأمر، فإن الاتحاد السوفيتي تعرض لغزو الجيش النازي في يونيو (حزيران) 1941،  لكن السوفيت سرعان ما تداركوا الموقف وتمكنوا من تحرير جميع أراضي الاتحاد المحتلة في 1944، وانتهوا إلى احتلال الجيش الأحمر السوفيتي برلين مناصفة مع الحلفاء (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة) يوم 2 مايو (أيار) 1945.
لم تكد الحرب تضع أوزارها عام 1945، حتى كان العالم قد دخل مرحلة أخرى من الصراع على النفوذ، بين الكتلة الشرقية (الاتحاد السوفيتي والجمهوريات التي تدور في فلكه)، والكتلة الغربية (الولايات المتحدة وأوروبا)، خلال تلك الفترة، شهد العالم عقودًا من التسلح النووي، والحروب بالوكالة بين حلفاء الكتلتين، وتدخلت القوى العظمى بجيوشها مباشرة في بعض الأحيان لحسم الصراعات الإقليمية، مثل تدخل الولايات المتحدة عسكريًّا في فيتنام عام 1961، وتدخل السوفيت في أفغانستان لإنقاذ حلفائهم الشيوعيين عام 1979.
إلى جانب استنزاف الجيش السوفيتي في أفغانستان، وتدهور الروح المعنوية، ساهمت الأزمات الاقتصادية الخانقة، وسقوط جدار برلين عام 1989، والاضطرابات القومية في مختلف الجمهوريات السوفيتية التي سعت إلى الاستقلال والخروج من العباءة الشيوعية، وفي 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، أعلنت رسميًّا نهاية الاتحاد السوفيتي، والتي شكلت فصلاً آخر من فصول روسيا الإمبراطورية، التي يحاول القادة الروس – على ما يبدو- هذه الأيام، استعادة بعض من بريقها.