الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لاهاي وجنيف... دلالات الأوضاع العربية

لاهاي وجنيف... دلالات الأوضاع العربية

27.01.2014
د. رضوان السيد


الاتحاد
الاحد 26/1/2014
حدثان مهمان يعنيان لبنان وسوريا، ويعنيان العرب جميعاً تدور فصولهما منذ أيام في لاهاي وجنيف (أو مونترو). في لاهاي، بدأت قبل أسبوع المحاكمة العلنية للمتهمين بقتل رفيق الحريري ورفاقه. وفي مدينة مونترو السويسرية بدأ مؤتمر جنيف2 بشأن الحلّ "السياسي" في سوريا. وللحدثين دلالاتهما على تأزم الأوضاع في المشرق العربي، ليس منذ الآن، بل منذ أكثر من عقد من الزمان. بيد أن لهما من جهة ثانية دلالات أبعد، تتصل بالضعف وبالعجز العربيين، وضرورات التدخل الدولي للتهدئة أو للإدارة أو للحلول!
عندما اغتيل الحريري في 14 فبراير 2005، كان قد مضى على الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان حوالي ثلاثين عاماً. ولذا فقد كان الجميع يعلمون أنّ القضاء اللبناني المسيطر عليه أيضاً من السوريين وحلفائهم الداخليين، لا يستطيع الكشف عمن أرتكب الجريمة، وسائر الجرائم السياسية، ومنها اغتيال رئيسين للجمهورية ورئيس آخر لمجلس الوزراء هو رشيد كرامي. لذلك فقد جرت المطالبة بتحقيق دولي، ولاحقاً بمحكمة دولية. وقد تحقق هذان الأمران بين 2005 و2007 لأن تيار الحريري كان في السلطة، ولأن إدارة بوش الابن، كانت تريد كبح جماح الأسد وإيران بسبب تدخلهما في العراق الذي كانت الولايات المتحدة قد احتلتْهُ عام 2003. ومع ذلك ما مرت المسألة بسهولة بالطبع. فقد انسحب الفريق الشيعي من الحكومة اللبنانية، ثم حاصر رئاسة الحكومة وأقفل مجلس النواب لأكثر من عام ونصف، ثم اجتاح بيروت عسكرياً. وفي أوائل 2011 أسقطوا حكومة سعد الحريري، بسبب انحياز نواب وليد جنبلاط إليهم، وجاؤوا بنجيب ميقاتي، صديق الرئيس الأسد، رئيساً للحكومة ذات اللون الواحد. لماذا حصل ذلك؟ لسببين: صدور القرار المبدئي عن المحكمة الدولية باتهام أربعةٍ من "حزب الله" (صاروا بعد ذلك خمسة) باغتيال الحريري، ثم نشوب الثورة على الأسد في سوريا. ماذا يظهر من هذه الوقائع ومما حصل في العقد الأخير ويحدث حتى الآن في لبنان وسوريا والعراق؟ ظهر ويظهر أن هذه البلدان العربية تعاني من استيلاء تنظيمات مسلحة، إيرانية أو حليفة لإيران، على مقاليد الأمور فيها!
وإذا لم يكف انعقاد محكمة دولية للتحقيق في جرائم سياسية ارتُكبت بلبنان، دليلا على سوء الأوضاع في العالم العربي ككل، فلنمض إلى النموذج السوري الفاقع. مضى على الثورة ضد نظام الأسد ثلاث سنوات. ومنذ اللحظة الأولى لاندلاعها بدأ الأسد بممارسة العنف ضد المتظاهرين السلميين بينما لم يحمل الثوار السلاح الخفيف دفاعاً عن أنفسهم ومسيراتهم إلا قبل أقلّ من عامين. إنما لندع هذا وذاك، ولنمض إلى جهة أُخرى. عقدت الجامعة العربية عدة اجتماعات من أجل سوريا. وكان أمامها أربعة نماذج للتدخل من أجل إبقاء العملية التغييرية سلمية: مصر وتونس واليمن وليبيا. وما احتاجت الجامعة لتدخل في مصر وتونس، لأن الجيش هناك انحاز للناس وعزل الحاكم. وعندما تفاقمت المُراوحة في اليمن تدخل مجلس التعاوُن الخليجي وفرض حلا سياسياً تنحّى بمقتضاه الرئيس صالح، وسارت عمليةٌ متعرجةٌ ما تزال قابلة للنجاح بعد النجاح النسبي للحوار الوطني. وفي النموذج الرابع، أي ليبيا، هدد القذافي شعبه بالإبادة، فاجتمعت الجامعة العربية وطالبت بالتدخل لحماية الشعب الليبي، فقصفت قوات الأطلسي بقرار دولي قوات القذافي حتى سقط صريعاً. وما كان ذلك الحل العنيف بالأمر الجيد لـ"الربيع العربي"، بالنظر لما حصل في القصف، وبالنظر لما يحصل بليبيا حتى الآن من سيطرة المليشيات المسلحة في سائر الأنحاء. وما كان أيٌ من هذه الخيارات متاحاً في سوريا. فقد تبين أنه ليس في سوريا الأسد جيشٌ وطني يمكن الاحتكام إليه في النزاع بين الحاكم وشعبه. لقد غادر الجيش ثلثا أفراده وضباطه، وبقي "أهل الثقة" من "الجيش الوطني" يقصفون شعبهم بالمدفعية والصواريخ والكيماويات والبراميل المتفجرة على مدى عامين. وسقط مائتا ألف قتيل بنيران الأسد. وتهجر حوالي نصف الشعب السوري بالداخل والخارج (نحو عشرة ملايين)، واعتُقل حوالي نصف المليون تحقّقت المنظمات الدولية أنه قُتل منهم تحت التعذيب أحد عشر ألفاً، علاوة على أزيد من مليون جريح ومُصاب. ليست هناك كارثة تفوق ما حصل في سوريا من حيث الخسائر البشرية غير رواندا وبوروندي (1995-1997). إنما في روندا وبوروندي كانت المذابح أهلية وإثنية في الأعم الأغلب. لذا فهناك شبهان فقط للمذبحة والإبادة أو شبه الإبادة هما: إسرائيل عندما احتلت فلسطين، والعراق عندما احتلته الولايات المتحدة. وفي الحالتين الإجراميتين ما بلغ عدد القتلى ولا عدد المهجرين هذا القدر الهائل! لماذا استطاع النظام السوري الثبات لهذه المدة الطويلة رغم جرائمه الهائلة؟ لأن الروس والإيرانيين ساعدوه. ولأن المليشيات الشيعية في العراق ولبنان واليمن والبحرين وأفغانستان وباكستان مضوا لمساعدته بالآلاف، ولأن الثوار السوريين ما استطاعوا تنظيم أمورهم، وأدخلوا على أنفسهم وعلينا متفرعات موجة "القاعدة" الثانية المخترقة من إيران والأسد. وأخيراً لأن الدوليين ما استطاعوا الوصول لاتفاق بشأن سوريا: روسيا لأنها تريد الظهور بمظهر القطب من جديد، والولايات المتحدة لأنها لا تريد التدخل العسكري، ولأنها تخضع هنا للمشيئة الإسرائيلية، ولأنها تريد مكافحة الإرهاب، ولأنها تريد مسالمة النظام الإيراني.
منذ انهيار العراق في مطلع التسعينيات، ما عاد للعالم العربي ظفرٌ ولا ناب. وحتى عندما توالت اجتماعات الجامعة العربية لإيجاد حل للأزمة السورية، ظهر انقسامٌ كبير. فالإيرانيون يسيطرون على السياسات الداخلية والخارجية بالعراق ولبنان، وهما دولتا الجوار العربيتان لسوريا. وتركيا لا تستطيع التدخل إلا بإرادة الأطلسي. والأردن لا يستطيع تحمل مسؤولية التدخل بمفرده. لذلك، وبعد عدة محاولات، لجأ العرب للنظام الدولي الذي ما استطاع اتخاذ قرار حتى بفتح ممرات إنسانية بالداخل السوري، فضلا عن إرسال قوات سلام تُدخل البلاد في مرحلة انتقالية. وهكذا جاء جنيف1 لوضع أسس يصوغها الدوليون للدخول في مرحلة انتقالية. وتأخر جنيف2 لأكثر من عام، لأن النظام وإيران تأملا عام 2013 أن يستطيعا إخماد الثورة وإبادة الثوار!
من هنا تأتي دلالة مؤتمر جنيف2، بعد دلالة محكمة الحريري في لاهاي. فقد جرى عبر عدة عقود تدمير القرار العربي أو القدرة عليه: بإبعاد مصر واستبعادها، وبتدمير العراق، وبأخذ إسرائيل حق الفيتو في كل ما يجري بدول الجوار، وبعودة كثير من الحكام العرب، العسكريين على الخصوص، للخضوع للإرادات الإقليمية والدولية.
وخلال العقود التي كان فيها العرب يتفككون، كانت منظمة الوحدة الأفريقية تتحول إلى اتحاد، عنده محكمة عدل، وقوات ضاربة، ويصطنع لنفسه نموذجاً ديمقراطياً يجمّد عضوية أي بلد يخالف النموذج. الاتحاد الأفريقي قوّته في رضا الدوليين عنه. والعرب ضعفُهم في غضب الدوليين عليهم حتى وهم منقسمون وضائعون ويفكرون في يومهم أكثر مما يفكرون في غدهم!