الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لا تنقذوا حلب!

لا تنقذوا حلب!

04.05.2016
نائل حريري


الحياة
الثلاثاء 3/5/2016
"استشهد آخر طبيب أطفال في حلب"، هكذا يتناقل السوريون الخبر في ما بينهم على الشبكات الاجتماعية، وتتسابق الصحف والمجلات – العربية والدولية - في نشره على أمل إعادة إحياء جو الدعم والمناصرة الذي رافق صورة الطفل السوري إيلان وأصداءها حول العالم. تبتعد بعض وسائل الإعلام خطوة أخرى للوراء فتتحدث عن استهداف مستشفى القدس صاروخياً وتستفيض في شرح ردود الفعل من منظمة "أطباء بلا حدود" تارة ومن "هيئة كبار العلماء في السعودية" تارة أخرى.
مع مزيد من القراءة والتمعن، نجد أن أحدهم يحاول الطعن في هذه المظالم بحجة أن هناك "حلباً" أخرى لا يزال فيها أطباء للأطفال، مستهجناً صياغة الخبر "المنحازة" وطاعناً في صدقيته حكماً بحجة وجود دوافع سياسية خلف نشره.
هكذا ينزاح النقاش عن الجريمة إلى مجرد حسابات رقمية لأعداد الضحايا ومناطق القصف ومقارنات بين المدينتين واختصار لعين بعين وسن بسن بانتظار اكتمال الإحصاءات الباردة التي لا يمكن إكمالها، مما يضطر بعض المدافعين والمنافحين أحياناً – مدفوعين بنوايا طيبة بالتأكيد – إلى مشاركة صور ووثائق لا يعرف مصدرها باعتبارها أدلة دامغة، وهنا ما يلبث أن يدلي خبراء "غوغل" بدلوهم مفندين الفبركات وكاشفين المصادر الأصلية لهذه الصور. وهنا يشتد النقاش انزياحاً باتجاه توزيع شهادات السيرة والسلوك على المتحاورين، وتصنيفات بين موالٍ ومعارض ورمادي وتيار ثالث وطابور خامس... الخ.
تترافق "همروجة" كهذه مع كل حملة وكل حراك إنساني في سورية منذ سنوات، إلى حد أصبح معه كثير من الناشطين السوريين يكتفي – وهذا أضعف الإيمان – بأن تصل إحدى هذه الصور أو اللقطات إلى الصحافة العالمية عسى أن تقوم بدورنا – نحن السوريين – أفضل منا في الدفاع عن قضايانا العادلة.
تفتقد جميع هذه الحملات سؤالها الرئيسي: "لمن تقرع الأجراس؟"، هل تتوجه هذه الحملات نحو المؤسسات الإغاثية "المشلولة" أم إلى المجتمع الدولي "المتعامي عن الوضع السوري" أم إلى الأمم المتحدة "التي لا تمتلك أي سلطة"؟
وإذا تغاضينا عن توزيع هذه الحملات مختلف الصفات والنعوت المشينة بحق من تتوجه إليهم بالنداء، فهل كان هذا كافياً من قبل لرفع الوعي أو دفع العجلة في أي اتجاه؟ هل ثمة نموذج ناجح قدمته هذه المقاربة من قبل؟ لنا في ذلك أمثلة في التاريخ القريب تمتد منذ انطلاق الثورة السورية وانتهاء بحملة المطالبة برفع الحصار عن قرية مضايا التي لا تزال - حتى اليوم - محاصرة.
لا يمكن لي كتابة هذه السطور من دون الشعور بالألم الذي يعتصر القلب في كل مرة. حلب مدينتي وسورية وطني، ويعز على أي كاتب في هذه الأثناء مصارحة الذات بهذا الشكل في ظل الموت والخراب المحدق من كل صوب، خصوصاً أن المكاشفة بالأخطاء والأمل في تصحيحها وتقويمها ما زال حتى اليوم يحسب بين السوريين خيانة، حيناً من باب "الفتنة وشق الصف" وحيناً من باب "مساواة الجلاد بالضحية".
لماذا لا يصل صوت السوريين إلى ما هو أبعد؟ ولماذا نجد أغلب هذه الحملات ليس إلا تكراراً للنواح والبكاء ينشره السوريون ويقرأونه ثم يتقاتل في شأنه – دوماً – السوريون؟
اليوم نعرف – أوضح من أي وقت مضى – أسماء وأوصاف الفاعلين على الارض والمتحكمين بالقرار. انقضت هدنة اتفقت عليها قوتان دوليتان، وها هي الآن تصاغ اتفاقية أخرى لوقف الأعمال العدائية بينهما. فيما نقف في المنتصف محاولين النأي بأنفسنا عن هذا وذاك، والترفع عن التوجه بحديثنا إلى صانعي القرار والمتحكمين به.
أدرك هذا الشعور تماماً. إنه أملنا كسوريين في أن تكون سورية – ما زالت - للسوريين. إنه رغبتنا في أن نصنع القرار بأيدينا، ووهم زائف في أن القضية هي مجرد سوء فهم، والمشكلة هي أن العالم لا يعرف بمأساتنا. ربما نسي متابعة نشرة أخبار الثامنة، أو ربما تعطل المذياع لديه البارحة. كل ما علينا فعله هو أن نصرخ "وامعتصماه"، ربما يراها في نشرة الأخبار، ويضرب جبينه الصلد بكفه ويقول: "رباه، لم أكن أعلم!".
سورية اليوم لم تعد للسوريين. ثمة قرار دولي الخيوط تمسكه أيدٍ سياسية باردة. تلك هي الأيدي التي يفترض أن نعرف ماذا تريد، ونتوجه إليها بالكلام. تبدأ المناصرة الحقيقية من بيان واضح واثق: "لا تنقذوا حلب، أنقذوا أنفسكم".