الرئيسة \  مشاركات  \  لا تُعْنِتُوا على النَّاس أَنْفُسَهم

لا تُعْنِتُوا على النَّاس أَنْفُسَهم

05.12.2015
د. محمد عادل شوك





جمعني ذات يوم لقاء مع أحد المتابعين أخبار الثورة،من غير السوريين، و أخذ يشكو من بعض سلوكيات المنتمين لفصائل الثورة السورية، و أشار إلى مقطع فيديو يظهر فيه أحد الثوار، و هو يدخَّن لفافة من التبغ على خط المواجهة، و تساءل كيف يمنحهم الله النصر، و هم يقترفون المعاصي؟ فقلتُ له: على رِسْلك، لعلَّك ترى مقطعًا آخر يظهر فيه من يشربُ الخمر؛ فازداد عجبًا، و احمرَّت وجنتاه، و انتفخت أوداجُه، و كادَ حبلُ الودّ بيننا أن ينصرم.
نقول هذا، و نحن أعرف الناس بحال أهلنا في سورية؛ فلقد صنعهم النظام على عينه على مدى نصف قرن من الزمن، حارب فيها قيم الدين حربًا لا هوادة فيها، و أبعده عن مناحي الحياة العامة، ولاسيَّما ما كان منها ذا طابع عسكري، أو أمني.
و بهذا فإنَّ أبناء الثورة السورية تتنازعهم مشارب شتى، أقلّها ما كان ذا خلفية دينية؛ بسبب قصم ظهر التيار الديني، و لا سيما الإخوان المسلمين في أحداث الثمانينات.
هذا على المستوى الديني، و أما على المستوى السياسي فالأمر أشدّ وضوحًا؛ مَنْ مِنْ أبناء الشعب السوري لم يسجل حضورًا في الفرق الحزبية التي كانت تغطي عموم الأرض السورية؟ مَنْ منهم لم تحوِ حقيبته توصية من الرفيق ( ابو فلان) حتى يحصل على فرصة عمل، أو مقعد جامعي، أو رخصة بناء، أو فتح محل، أو الالتحاق بدفعة من دفعات كلية الشرطة، أو الكليات العسكرية كضابط تحت الاختبار لمدة عامين، يطرد منها عندما يُرى أثر التدين عليه خلالها، و لو على مستوى حرية العبادة الشخصية المكفولة بموجب الدستور؟.
لقد استطاع هذا النظام على مدى عقود طويلة تجفيف ينابيع السياسة لدى أبناء سورية؛ جعل فيها حزب البعث قائدًا للدولة و المجتمع بلا منازع، و برسم المادة الثامنة من الدستور، و منع غير البعثيين من ولوج المؤسسة العسكرية، و الأمنية مهما تكن الأسباب، و حتى من استطاع أن يخفي مشاعره السياسية متدثرًا بعباءة البعث، كان سيف الرقيب مسلطًا عليه في أي وقت يتمكن فيه رجل الأمن من اكتشاف ذلك عنه، و أشدّ ما يكون الأمر صرامة في الكلية الجوية.
هذا هو واقع الحال في سورية إلى حين قيام الثورة، فأخذت الأمور تتبدل رويدًا رويدًا، مع تفاوت في مستويات التغيير في المواقف، و القناعات، و لعلَّ أسرعها ما كان على المستوى الحزبي، و السياسي، و بدرجة أبطأ على المستوى الشخصي ( تدينًا، و سلوكًا ).
لقد رأى المتابعون الخط البياني للحراك الثوري بشقيه ( المدني، و العسكري )، و هو يتجه صعودًا بشكل لافت للنظر، و شمل ذلك ألوان الطيف في المجتمع السوري بغض النظر عن الإرشيف الخاص بكلٍّ منهم؛ فرأينا من الثوار من هو ذو خلفية إسلامية، و أخرى علمانية، و ثالثة عرقية، و رابعة طائفية، و هكذا دواليك.
و هؤلاء كلهم لا غنى للثورة عن أحدهم أيًّا كانت المبررات و الحجج المساقة؛ فهي بحاجة إلى تكثير السواد حولها، و هي بحاجة إلى خبراتهم لكسر حلقة النظام المستعصية. و هم قبل كل شيء أبناء هذا الشعب، الذي ننشد له الحرية، و نبغي له الخلاص من نير هذا النظام القمعي المستبد.
فأيًّا كانت الدواعي وراء انضمام هؤلاء إلى الثورة علينا أن نرحب بهم، و نشاطرهم الهمّ، و الأمل؛ لا أن نخضعهم لمقصلة المحاكم، و نماحكهم في نواياهم، و دواخلهم، فالثورة ليست حكرًا على جهة، أو طائفة، أو لون عقدي من دون الآخرين، و لا يحق لنا أن نجعل من أنفسنا سيفًا مسلطًا على رقاب الناس نحاكمهم بسبب تأخر انضمامهم للثورة؛ فالثورة لمن صَدَقَ لا لمن سَبَقَ، و الجنة ليست برسم التمليك لمن أسلم بالأمس، و سيحرمها من يفعل ذلك اليوم، أو غدًا.
 فليس مبررًا لأحد أن يجعل من نفسه قاضيًا يمنح صكوك الغفران لمن يحب، و يحرمها من يكره؛ فالوطن ملك للجميع، و حتى لمَنْ انتصرت الثورة و هو في الجهة الخطأ ـ شريطة أن يكون قد كفّ يده عن أعراض الناس، و دمائهم ـ .
لقد قالها المسيح عليه السلام كلمة باقية: ( مَنْ كان منكم بلا خطيئة؛ فَلْيَرمِها بحجر ).