الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لا شرق أوسط جديداً وحدود سان ريمو صامدة

لا شرق أوسط جديداً وحدود سان ريمو صامدة

29.05.2014
أف. غريغوري غوز الثالث


الحياة
الاربعاء 28/5/2014
كرّت سبحة الحوادث في شرق العالم العربي: الحرب الأهلية في سورية تتفاقم، والاضطرابات متناسلة الفصول في العراق، وعدم الاستقرار السياسي مزمن في لبنان. ويقال اليوم إن الحدود "المصطنعة" التي رسمتها فرنسا وبريطانيا إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولكن، هل الدول التي أبصرت النور على يد الكولونيالية الأوروبية في عشرينات القرن العشرين، على شفير الانهيار؟ وهل ترتسم معالم حدود جديدة في الشرق الأوسط؟ لا هي إجابة سريعة ووافية. وعلى رغم أن هذه الدول الثلاث لن يسعها بسط سيادتها على كامل أراضيها، لن ترسم حدودها مجدداً. فهذه الدول هي أقرب إلى "شبه- دول" يعترف المجتمع الدولي بسيادتها، على رغم أنها لا تستوفي شروط السيادة المفترضة– أي الإمساك بمقاليد البلاد وحدودها. وسيرورة تغيُّر أنماط الحكم في المشرق العربي تمضي قدماً، لكن حدود الدول هذه باقية على حالها ولن تتوج تغيُّر أنظمة الحكم. فاللاعبون الدوليون والإقليميون لا يرغبون في تعديلها.
ولازمة "نهاية سايكس- بيكو" يرددها من يتوقع تغييراً وشيكاً للحدود، ووراء هذا التوقع لغط في التسمية. فاتفاق سايكس- بيكو أبرم في 1916، ومهّد لتقاسم بريطانيا وفرنسا السلطة على الأراضي العربية في السلطنة العثمانية المتداعية (وأراضٍ تركية وكردية)، وقسّمها تقسيماً أولياً. لكن الحدود النهائية لدول المنطقة رسمت في مؤتمر سان ريمو عام 1920. وكان شمال العراق في سايكس- بيكو من نصيب فرنسا، وأُوكِلت إلى هيئة دولية إدارة الأراضي المقدسة. وأرسى مؤتمر سان ريمو مشروعية الحدود التي اتفقت عليها فرنسا وبريطانيا. فلبنان نُحت من سورية الفرنسية الانتدابية، وشرق الأردن فُصل عن فلسطين الانتدابية البريطانية. وجمع الانتداب البريطاني العراق من ثلاث محافظات عثمانية، الموصل وبغداد والبصرة. لذلك، تقضي الدقة التاريخية بتسمية الكلام على انهيار النظام الإقليمي في الهلال الخصيب بـ "نهاية سان ريمو".
ويبلغ عدد نتائج محرك البحث "غوغل" عن "نهاية سايكس- بيكو" 14700 نتيجة. وأدلى ديبلوماسيون سابقون وصحافيون وأكاديميون مرموقون بدلوهم في المسألة هذه. ولكن، لا شك في أن هذه الكيانات "الاصطناعية" صمدت وبقيت، وحدودها لم تتعدل منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وشرق الأردن هو اليوم الأردن، وتمسك إسرائيل بمقاليد فلسطين الانتدابية (غزة استثناء إلى حد ما والسيادة على الضفة الغربية ملتبسة). وحدود العراق ولبنان وسورية (باستثناء اقتطاع فرنسا إقليم اسكندرون- هاتاي في 1939) بقيت على صورتها الأولى.
ولو قُيِّد لدولة فلسطين أن تبصر النور لخلفت تغييراً كبيراً في خريطة المنطقة، لكن حظوظ مثل هذه الدولة في 1999 كانت أكبر من حظوظها اليوم. ولا يعود تفكك الدولة العراقية إلى اليوم، فهو بدأ في 1991 مع إرساء منطقة حظر غربية نزولاً على قرار مجلس الأمن القاضي بحماية منطقة كردية في شمال العراق وشمال شرقه. وهذا التقسيم "الناعم" للدولة العراقية لا يخرج عن دستور عراق ما بعد صدام حسين الذي أقر إنشاء حكومة كردية. والحكومة هذه تتسم بصفات الدول منذ أكثر من 20 عاماً. فهي تبسط سيادتها على إقليمها، ولها قوات خاصة بها وعلاقات خارجية. لكن حدود الدولة العراقية لم تتغير. وتسلط منزلة كردستان العراق بين منزلتين- فالإقليم يشبه الدولة ولكن لا اعتراف دولياً باستقلال كيانه- الضوء على ضعف نظرية "نهاية سايكس - بيكو"، وتدحضها. فالقوى الدولية رسمت معالم شرق العالم العربي في مرحلة ما بعد السلطنة العثمانية، وسعت بالتعاون مع السلطات الكولونيالية والنخب الموالية وحكام الدول المستقلة إلى "بناء" دول فعلية. لكن نجاح هذه المساعي أو إخفاقها لم يكن شرط الاعتراف الديبلوماسي الدولي بهذه الكيانات. فعلى سبيل المثل، لم تبسط الحكومة اللبنانية كامل سيادتها على أرضها منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975. ولم يعترف المجتمع الدولي بأي منطقة مستقلة في الكيان اللبناني أثناء هذه الحرب، ولم ينف صفة الدولة عن لبنان. ولن يعلن إقليم كردستان العراق الانفصال عن وحدته المزعومة مع العراق في غياب اعتراف دولي بارتقائه دولة مستقلة. وقد تتحول سورية إلى دولة تمزقها تقسيمات الأمر الواقع، على نحو ما حصل في لبنان أثناء الحرب الأهلية. لكن القوى الأجنبية لن تعترف باستقلال أي من الدويلات السورية، ولا يبدو كذلك أن قادة هذه الدويلات عازمون على إعلان الاستقلال. فحدود ما يسمى "سايكس - بيكو" باقية، وهشاشتها تشبه هشاشة الدولة في هذه الدول.
فالقوى الخارجية رسمت حدود هذه الدول، ولا مصلحة للمجتمع الدولي في تعديلها ورسمها مجدداً. ولن تبادر الولايات المتحدة إلى ذلك، فهي رعت كردستان العراق طوال 25 سنة، لكنها لم تحضّ الأكراد على إعلان الاستقلال. ولم يدعُ الروس أو الصينيون أو الأوروبيون إلى مؤتمر دولي لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. وقد تتذرر دول هذه المنطقة تذرراً داخلياً، وتبرز سلطات أمر واقع. لكن الحدود الدولية لن تتغير.
* صحافي، عن "واشنطن بوست" الاميركية، 20/5/2014، إعداد م. ن.