الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لكي لا تُخطئ "الحركات السنية" في الحسابات.. مرةً أخرى

لكي لا تُخطئ "الحركات السنية" في الحسابات.. مرةً أخرى

03.08.2015
د. وائل مرزا



الشرق القطرية
الاحد 2/8/2015
ثمة فكرة تشيعُ في المنطقة تتعلق بإعادة النظر في دور ما كان يُسمى "حركات الإسلام السياسي" في الواقع العربي، وطبيعة العلاقة بينها من ناحية، وبين دول المنطقة وشعوبها من ناحيةٍ ثانية.
هذا أمرٌ طبيعي إذا أردنا أن نكون واقعيين بكل المعاني. فسواء تعلقَ الأمر بالرؤية السياسية أو التركيبة الاجتماعية أو التكوين الثقافي للعرب، يبدو من مختلف الزوايا أن وجود هذه الحركات جزء من الواقع العربي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. قد تختلف أطراف عديدة في تقويمها لحجم هذا الوجود ولدرجة تأثيره، سلباً أو إيجاباً، في الواقع المذكور، لكن المفارقة التي يجب الانتباه إليها تتمثل في أن هذا الاختلاف يحمل في طياته مبرراً للاستمرار في دراسة الظاهرة، ورصد تطوراتها بشكلٍ دائم، لئلا يؤدي الاختلاف، ذاتهُ، في تقويمها، من قبل اللاعبين المؤثرين، إلى مشاكل أخرى يبدو الجميع في غنى عنها.
وهذا، بشكلٍ عام، أنفعُ للمنطقة ومصالحها من "تصنيم" تلك الحركات في صورةٍ ذهنيةٍ مُعينةٍ ثابتةٍ في أبعاد الزمان والمكان، ومن ثم، الحكم عليها والتعامل معها بناءً على تلك الصورة.
يصدقُ هذا تحديداً في المرحلة الحساسة الراهنة، حيث تبدو المنطقة العربية بأسرها، خاصة المشرق العربي، في مهب عواصف إقليمية ودولية، سياسية وحضارية. وحيث يتصاعد الحديث عن خرائط وتحالفات جديدة تبدو بمجملها مخاضاً لولادة نظامٍ إقليمي جديد، من المصلحة أن يُولد بالإرادات المُشتركة لأهله، بدل أن يظهر فيه فجأةً على سبيل القهرِ والإجبار و(الأمر الواقع) الذي لا مهربَ منه.
يبدو لافتاً هنا، على سبيل المثال، أن تظهر تسمية (الحركات السُنية) التي يبدو واضحاً أنها تنبعُ من ظروف المرحلة الجديدة، رغم أن المقصودَ بها، في معظم الأحوال، هو الحركاتُ المذكورةُ أعلاهُ عينُها. فهذه التسمية (الوظيفية) تدخل في نطاق محاولات التعامل مع (إكراهات) التغييرات الإستراتيجية الراهنة، ومحاولات أن يحصل ذلك باستخدام أدوات ومُفردات تلك التغييرات، وهو ما يحتاج إلى حساباتٍ في غاية الدقة والحساسية والتوازن.
لكن أحد الشروط الرئيسية للعملية المذكورة أعلاه، إن لم تكن الشرط الرئيسي، يتمثل في تبني الحركات المذكورة لفكرٍ سياسي جديد، تَتجنبُ بناءً عليه كثيراً من الأخطاء في الحسابات، صدرت عنها في المراحل السابقة.
أحد عناصر هذا الفكر يتمثل في العلاقة مع الإسلام ذاته. هنا، بات مطلوباً من الحركات المذكورة أن تُحدث قطيعةً نهائيةً مع احتكار (تمثيل) الإسلام بأي طريقة، خاصة من خلال التماهي فيه، نظرياً أو عملياً، على طريقة (نحن الإسلامُ والإسلامُ نحن)، بكل ما يترتبُ عليها من إقصاء وتجاذبات.
وفي هذا السياق، ينبغي تجاوز موقف رفض المراجعات في فهم الإسلام بدعوى مقولة (الخوف على الإسلام). وكما ذكرنا سابقاً: "لا مفر من إعادة التذكير بأعلى صوت، والنداءُ موجهٌ للإسلاميين، ممن يخافون على الإسلام حقاً، مشايخَ وحركيين ونشطاء، ولكثيرٍ من المسلمين، إعادة التذكير بأن الباب، الذي يستميتون لخَتمهِ بالأقفال، أصبح مفتوحاً على مصراعيه منذ زمن. فالإسلام بات شأناً عاماً. وبغض النظر عن النيات، فقد صار الحديث فيه مشاعاً لكل الناس، لأنهم يرون أنه يؤثر في حياتهم ويصنع حاضرهم ومستقبلهم، ولم يعد ثمة معنى للعودة إلى (كهنوتية) تحصر الحديث في الدين في طبقةٍ معينة، بل إن المفارقة الغريبة، أن شريحة رجال الدين هي الأكثرُ سكوناً وقلة حركة وتَمَسُّكاً بالحَرفية، حين يتعلق الأمر بفهم الإسلام في ضوء المتغيرات الكبرى الراهنة، بدلاً من مواكبتها".
أما ثاني عناصر الفكر السياسي الجديد المطلوب فتتمثل في مسألة العلاقة مع الوطن والوطنية والمواطنة، إذ يبدو ضرورياً أن تجري عملية (مصالحة) كُبرى مع هذه المفاهيم ومقتضياتها العملية في جميع المجالات. هنا أيضاً، نعيد التأكيد بأن الإسلام الحقيقي الكبير لا يخاف من انتماء أتباعه إلى (شعبٍ) و(وطن)، فضلاً عن استحالة خوفه من مجرد ذكر هذه الكلمات. وإذا كان هناك حقاً من يخافُ على الإسلام من اقترانه بالشعوب والأوطان، فإنه لا يُقزﱢم هذا العملاق ويظلمهُ فقط، بل ويُثبت أنه، هو نفسه، أقلﱡ شأناً وأصغر قامةً بكثير من أن يُمثل هذا الدين.
من هنا، يُصبح مطلوباً بإلحاح تحرير مسألة فهم الإسلام وحصر تمثيله في جماعةٍ معينة، تنطلق من ظروفها الخاصة وأحوالها المُعيّنة، وتتحرك بناءً على حدود علمها التي كثيراً ما تكون في غاية القصور، لتقوم بأفعال وتصرفات، ولتتصدى لقرارات ومخططات، تتجاوز بمراحل قُدرَتها على الإحاطة وتنتج عنها مستتبعاتٌ سلبية تؤثر على الآخرين.
ينقلنا هذا إلى العنصر الثالث من عناصر الفكر السياسي الجديد يتعلق بعادة (الاستحواذ)، ليس على تمثيل الدين هذه المرة، وإنما في مقام الحركة السياسية وطبيعتها في حال الوصول إلى موقع المسؤولية السياسية أو الحكم بأصغر صوره وأكبرها. فعقلية الاستحواذ والاستئثار الفئوية هي دوماً مدخلٌ لفشل أصحابها أولاً، ثم للآخرين جميعاً بعد ذلك، لأن هموم الأوطان والمجتمعات ومشكلاتها أكبرُ وأعقدُ بكثير من أن تستطيع حركةٌ هنا وجماعةٌ هناك التعامل معها. ولا مفر من مدخل الشراكة على الدوام سبيلاً لتحقيق المصالح العامة، فهي التي تُطلق الكمون الكبير الموجود في الشرائح المختلفة للشعوب، وتفتح أمامها مجالات الإسهام للبحث عن الحلول وتطبيقها.
وهناك عنصرٌ آخر خطير في الفكر السياسي الجديد المطلوب من الحركات الذكورة، إذ إن العودة للحضور في المجتمعات لا يجب أن يكون مُقترناً، بأي حال، بعقلية الانتقام والتشفي، أو الاعتقاد بأن هذا الحضور المتجدد هو علامة صوابية كاملة للممارسات السابقة، وبأن كل ما في الأمر أن (الآخرين لم يفهمونا ويفهموا كلامنا، وها هي عودتنا تُثبت أن كل ما قلناه وفعلناه كان صواباً). والأدهى هو استعمال مفهوم (المظلومية) كسلاحٍ معنويٍ ومادي في وجه هؤلاء الآخرين. إذ ليس أبعدَ عن الحقيقة من هذا الظن، وما من مدعاةٍ للخطأ في الحسابات، مرةً ثانية، منه. ومثلُ هذا الاعتقاد لن يكون، في الحقيقة، إلا مدخلاً لحلقةٍ جديدة من الفوضى والضياع.
أخيراً، سيكون أهم ما في الفكر السياسي الجديد المطلوب، وخطابه المُعلن، ألا يتم تقديمه على سبيل (التُقية).. والتكتيك المؤقت. ففي غياب مراجعاتٍ شاملة وحقيقية وعميقة ينتج عنها تبني فكرٍ سياسي مُغاير، ستُثبت هذه الحركات أنها ليست ماهرةً في الانتحار الذاتي فقط، بل وفي هدم أوطان تُعلنُ ليلَ نهار أنها لا تبتغي لها سوى العمران.