الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لماذا نستغرب تصريحات كيري؟

لماذا نستغرب تصريحات كيري؟

21.03.2015
عثمان ميرغني



الشرق الاوسط
الخميس 19-3-2015
أستغرب من الذين استغربوا تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري، عن ضرورة الحوار مع الرئيس السوري بشار الأسد، لدفعه إلى التفاوض لضمان انتقال سياسي وإنهاء الحرب. فالكتابة كانت على الحائط، كما يقولون، والمؤشرات كانت كثيرة وكثيرة منذ فترة طويلة، لكننا تعامينا عنها أو لم نرد تصديقها. فعلى مدى 4 أعوام هي عمر الأزمة، بقي الغموض هو عنوان الاستراتيجيات الغربية، وبالذات في واشنطن. لم يحدث تدخل حاسم لإقصاء النظام وإنهاء المأساة التي لحقت بسوريا وشعبها، وترددت إدارة أوباما طويلا في تقديم الدعم العسكري، رغم إلحاح الأصدقاء، ومناشدات المعارضة.
عندما دخل "داعش" على الخط بدأت المواقف تتضح أكثر، على الأقل في واشنطن، حيث أعلن أن إدارة أوباما قررت إعطاء الأولوية لمحاربة "الدولة الإسلامية" المزعومة، وتأجيل النظر في مسألة مستقبل نظام الأسد. سكتت الإدارة عن تصريحاتها في بدايات الأزمة عن أنه لا بد من تنحي الأسد ونظامه، وهي تصريحات لم تجد ترجمة في أرض الواقع على أي حال، وأخذت الأمور منحى آخر نحو "تفاهم" غير مباشر مع دمشق ضد إرهاب "داعش". كان جليا أن غارات التحالف على مواقع الدواعش تخفف الضغط أيضا عن قوات النظام، وقيل إن ذلك سيطلق يد هذه القوات لكي تصعد هجماتها على مواقع "الدولة الإسلامية" المزعومة والحركات الإسلامية المتطرفة الأخرى. وقتها احتفى النظام السوري بتلك الغارات معتبرا أنه والولايات المتحدة باتا في خندق واحد في الحرب على الإرهابيين، لكن النظام لم يكن يفرق بالطبع بين الفصائل التي تحارب ضده، ولا يرى معارضة معتدلة أو متطرفة، بل يدرجها كلها في ما يصفه بحربه على "الإرهابيين". وهكذا استخدم تلك "الانفراجة" لكي يكثف غارات "البراميل المتفجرة" ويستعيد مواقع كثيرة من المعارضة، بينما كانت طائرات التحالف تشن الغارات على مواقع "داعش".
الاستراتيجية الأميركية في التركيز على دحر "داعش"، وتأجيل موضوع مستقبل نظام الأسد، أثارت كما اتضح لاحقا خلافات داخل إدارة أوباما أدت إلى استقالة أو إقالة وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هيغل. فقد تسرب لوسائل الإعلام الأميركية أن هيغل كتب رسالة إلى البيت الأبيض انتقد فيها ما رآه غموضا في موقف الإدارة إزاء مستقبل نظام الأسد مطالبا بموقف أكثر وضوحا لجهة تنحيته، ومحذرا، في الوقت ذاته، من أن التسويف وترحيل الأزمة السورية سيضر بالاستراتيجية الرامية إلى دحر "داعش". وكان ذلك بالطبع مؤشرا آخر على أن واشنطن باتت تتعامل مع بقاء نظام الأسد كخيار للمستقبل المنظور لمنع وقوع سوريا في أيدي الدواعش.
هذه الاستراتيجية لم تكن موقف واشنطن وحدها، بل تبنتها أطراف أخرى ومراكز أبحاث غربية قريبة من دوائر صنع القرار. فقد أثيرت ضجة واسعة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما سربت خلاصة تقرير "سري" أعده خبراء "مركز الحوار الإنساني"، ومقره سويسرا، وقدم إلى حكومات غربية تحت عنوان "خطوات لحل الصراع السوري". سبب الضجة أن التقرير انتهى إلى خلاصة مفادها أن الحل في المستقبل القريب لا يقوم على انتقال السلطة أو حتى تقاسمها بل في الحفاظ على بنية الدولة ولو كان ذلك يعني بقاء النظام للمستقبل القريب، بدلا من المجازفة بوقوع الدولة في "أيدي الجهاديين"، على حد قول معدي التقرير.
لم يكن التقرير عاديا، لأن جوهر خطته للحل القائمة على "التهدئة المرحلية والمناطقية"، كان هو بالضبط ما ظهر في الخطة التي طرحها ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة المكلف بمتابعة ملف الأزمة السورية. فقد طرح دي ميستورا هذه الخطة على الأسد مقترحا التهدئة المرحلية انطلاقا من حلب، وتعرض بسبب ذلك لانتقادات شديدة باعتبار أن خطته تعني أن المجتمع الدولي بات يرى أن التهدئة تمر عبر قناة الأسد، وبالتالي تعتبره جزءا من مساعي الحل.
هل هذا كل شيء؟
قطعا لا، فهناك التداخل مع ملف المفاوضات النووية مع إيران الذي يتردد أن مداولات الصفقة حوله تمر أيضا عبر صرف النظر عن أي تفكير في إطاحة نظام الأسد، الحليف الرئيسي لطهران في المنطقة. هذا الكلام ليس جديدا، ومتداول منذ فترة، وفي إطاره أيضا تبين أن استراتيجية إدارة أوباما ترى لإيران دورا في "حرب الإرهاب" سواء في سوريا أو العراق.
المنطقة في بحر من الرمال المتحركة، وليتنا نصحو من غفوتنا ونتوقف عن ندب مواقف أميركا أو غيرها. الدول تعمل لمصالحها، وهذا حقها. وحري بالعرب أن يتوقفوا عن سياسة الاتكال على الآخرين ويتحملوا مسؤولياتهم، ويدافعوا عن مصالحهم. فالتحولات في الموضوع السوري نموذج واحد لمتغيرات كثيرة تحدث في المنطقة، تستدعي استراتيجيات جديدة تنفض سياسات التناحر والشك، وتبدأ في إعادة ترميم الجسد العربي المتهالك، انطلاقا من تشكيل تكتل بين الراغبين للتعامل مع المخاطر المحدقة.