الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لماذا نقيّد أيدينا تجاه روسيا؟

لماذا نقيّد أيدينا تجاه روسيا؟

07.12.2014
ميشيل كيلو



العربي الجديد
السبت 6-12-2014
يعلم من يعرفني أنني كنت شيوعياً، من دون أن أكون صديقا للاتحاد السوفييتي، أو معجبا بنظامه وسياساته، وأنني كنت استخدم معارفي الماركسية، لانتقاد أوضاعه الاستبدادية، وظلمه الاجتماعي، وتمييزه القومي، وطبقية وفئوية قياداته، ونزعتها الإلحاقية التي تشبه كثيراً النزعات الاستعمارية. ولست، اليوم، أيضاً، صديقا لروسيا، ولا أرغب في رؤية أحد من ساستها وعسكرها، وأعرف أن رئيسها كان رائداً في المخابرات العسكرية، حين لفت نظر سلفه السكير واللوطي يلتسين الذي رأى فيه رجلاً قليل الخبرة وجاهلاً، فأورثه السلطة، لكي يديرها بالأهلية اللائقة بضابط مخابرات صغير، تسلطن على امبراطورية متعسكرة، تقف مدنياً وانسانياً على ساقين من قصب، يتعرض رعاياها لنهبٍ منظم، يمارسه مافيوي، تحيط به حاشية فاسدة، في زمن يشبه الزمن الذي قامت الثورة البلشفية ضده، لكنه احتواها، وجعلها تنويعة من تنويعات إقطاع دولوي محدث أمنياً، أسموه النظام الاشتراكي.
لكنني، وانطلاقا مما أعتقد أنها مصالح الشعب السوري العليا، لا أفهم لماذا نضع كل بيضنا في سلة أميركا: الدولة التي تدير أزمتنا، وتضع خطوطاً حمراء، تمنع أية دولة من وقفها أو إيجاد حلول لها، أو مساعدتنا على تجاوزها، وتعمل لاستمرار مأساتنا إلى أطول فترة، لأنها ترى فيها فرصة لتصفية حساباتها، وحسابات إسرائيل مع إيران، وحساباتها هي مع روسيا بدمائنا، وللتحكم بنا، على الرغم مما يقال خطأ حول ضعفها وعجزها عن لعب دور فاعل فيها. لا أفهم، ولن أفهم بعد اليوم، لماذا نرى روسيا بأعين أميركا، ونعتبرها طرفاً يجب أن نعاديه، لأنها تعاديه، ولا نرى فيها جهة معادية لنا، لا يجوز أن نحدد مواقفنا منها، انطلاقاً من مواقف واشنطن حيالها، من واجبنا تغيير موقفها الداعم للنظام السوري الذي نعلم أنه لعب دوراً خطيراً في قتل شعبنا وتدمير بلادنا، ولا تتجاوز فرص نجاحنا في تغييره الخمسة بالمائة؟
لا أفهم لماذا نحج، بلهفة وسعادة، إلى أميركا، المسؤولة عن الجزء الأعظم من مأساتنا، والتي تتلاعب بنا بشهادة سياساتها العراقية والكردية، وتصريحات رئيسها حول أولوية التصدي لداعش، بالمقارنة مع إسقاط الأسد، وتضع قضيتنا في البراد، ريثما تنتهي المعركة ضد الإرهاب، التي يبشرنا باراك أوباما بأنها ستستمر بين ثلاثة أعوام وثلاثين عاماً، يرجح أن يكون الأسد قد أباد خلالها شعبنا عن بكرة أبيه، ومسح بلادنا عن وجه الأرض، وجعلها قاعاً صفصفاً، وإنه لن يبقي فيها نافخ نار يطالب بحق!
لماذا لا نبدأ حواراً منظماً مع موسكو التي ليست أفضل من أميركا، لكنها ليست أسوأ منها أيضا؟ وأين الخطورة في أمر كهذا، إذا كنا في قد ألحقنا قدراً من الأذى بقضيتنا، لا يترك لغيرنا أية فرصة، لإضافة المزيد عليه؟ إن فتح باب حوارات منظمة، وعلاقات مستدامة مع موسكو، وحتى طهران، يصعب أن يحدث تحولاً نحو الأسوأ في أحوالنا التي بلغت أسفل الدرك الأسفل! ثم مم نخاف؟ هل نخشى ردة فعل أميركا التي تلزم نفسها في تصريحات رئيسها بإشراك روسيا وإيران في أي حل سياسي للمعضلة السورية؟ هل يبطل التزام أوباما بحل ينجز معهما حقنا نحن، أهل الصبي، في استكشاف طبيعة وحدود حل نحن موضوعه وسيتقرر من خلاله مصيرنا؟ أعتقد أن علاقتنا مع خصم أميركا الروسي قد تضغط عليها، وتدفعها إلى مراجعة موقفها منا، إلا إذا بنيناها بطرق كارثية، تمكن الروس من بيعنا في أول مناسبةٍ، وبأبخس الأثمان، تفوت علينا الإفادة من التناقضات الدولية، التي اعتبر أحد أعظم ثوار التاريخ استغلالها، والإفادة منها، عاملاً حاسماً، يتوقف عليه انتصار أية ثورة في عصرنا؟ ألم يقم ثوار فيتنام علاقات تفاوضية مع أميركا، بينما كانت تمطرهم بوابل من الصواريخ والقنابل الأشد فتكاً؟ ولماذا نقبل تقاسماً وظيفياً قاتلاً، يضع روسيا وإيران في صف النظام، ويضعنا تحت إبط دولةٍ، لا نمون عليها، ولا تهتم برؤيتنا ومصالحنا، بل ولا تقيم وزناً لنا، وتستخدمنا في صراعاتٍ، لا علاقة ولا مصلحة لنا بها، تخوضها، كما أسلفت، بدمائنا؟ ما مصلحتنا في أن نكون طرفاً في صراعات دولية، لسنا ولا نريد أن نكون طرفاً فيها. قامت الثورة ضد سياسات حكامنا المجرمين، ولم تقم كي ننخرط فيها؟ أليس من مصلحة الثورة أن نحاول منع روسيا من عقد صفقة مع أميركا على حسابنا، ومن وراء ظهورنا، أم أن مصلحتنا تكمن في الانخراط، كمرتزقة، في صراعات أميركا ضد خصومها وأعدائها، الذين لا يخدم شعبنا المظلوم تحويلهم إلى أعداء، لا صلح ولا سلام، ولا مفاوضات معهم؟ إذا كان انفكاك هؤلاء عن الأسد يؤذيه، لماذا لا نبلور خطة سياسية، تبعدهم عنه، أعرف تماماً مصاعبها وتعقيداتها، لكنني أعرف، أيضاً، أنها لا يجوز أن تكون سبباً لمنعنا من خدمة قضيتنا، بتحييدهم، أو استخدامهم ورقة ضغط، إن كان من المحال كسبهم؟ وهل يضر بنا أن تكون لنا علاقات مدروسة، مفعمة بالشك والحذر، تجاه إيران؟ أما كانت علاقات كهذه ستلعب دوراً في انفكاك بعض جماعة النظام عنه، بما كانت ستفتحه من أقنية تواصل وحوار خلفية معهم أيضا؟ ما الضرر في أن نعمل على هذا الموضوع الحيوي، من دون أوهام، أو أحكام مسبقة؟
أخيراً، لو كانت لدينا مثل هذه الأقنية مع إيران وروسيا والصين، على ما بين الدول الثلاث من تباينات في المواقف، هل كنا سنبدو كأسرى لأميركا، وكان النظام سيتمتع وحده بمنافع الانقسام الدولي التي تكفلت بتسليحه وحمايته؟ وهل كنا سنعامل كضلع قاصر، لا حول له ولا طول، مصيره معلق على ابتسامةٍ، أو تكشيرة أميركيةٍ، هنا وهناك؟ وما مصلحتنا في أن تفاوض أميركا روسيا بالنيابة عنا، مع أن موضوع التفاوض هو مصالحنا ومصيرنا؟ وما مصلحتنا في أن تكون قضيتنا جزءاً من القضايا الأميركية العالقة مع الكرملين، مع أنها ليست، ولا يجوز، بأي حال، أن تكون كذلك؟
هذه الأسئلة وغيرها تطرح نفسها علينا اليوم، وتلفت أنظارنا إلى أن انغراسنا في العلاقات الدولية بالصور التي تخدمنا لن يتم عبر انخراطنا في صراعاتٍ ومصالح، لا شأن لنا بها، كانت مقتلنا في الأعوام الماضية، وتجعل منا، اليوم، ورقة مساومة صغيرة بين أميركا وروسيا وإيران، وسترغمنا غداً على قبول ما يقدمه هؤلاء من حلولٍ، تقول أدلة متراكمة إنها لن تكون في مصلحتنا، أو ملبية لمطالب شعبنا، ولن تطيح النظام المجرم الذي فتك بالملايين منا.
ليست هذه دعوة لمقاطعة أميركا، أو لمعاداتها، فنحن لا نستطيع تحمل نتائج مثل هذه الحماقة. إنها دعوة إلى إعادة رسم مواقفنا حيال العالم، بما فيه أميركا، انطلاقاً من قضيتنا العادلة، وبدلالتها، على أن يتلازم ذلك، مع سعي حثيث وثابت، إلى ضرب من التواضع في العلاقات الدولية، يتكامل مع التجذر المطلوب داخل بلادنا وأوضاعها الخاصة، ومع إقامة قدر أعظم من التوحيد والتنسيق والتعاون بين أطراف العمل العام المعارض، السياسي منه والعسكري، الذي لن يتفق عائده مع تضحياته وإنجازاته، إذا لم يحصن بوحدة وطنية، لقوى الداخل والخارج، وبالانغراس ضمن بيئة دولية ملائمة، تمنحنا القدرة على المناورة بين أطرافها، والإفادة من تناقضاتها وتوافقاتها، وإلا صرنا رقما يسهل تخطيه في أي حل، وتطبيق حلول تجافي مصالحنا، ولا تحظى بقبولنا.
لنخرج من واحدية علاقاتنا الدولية. ولنمد أيدينا بثقة إلى دول العالم جميعها، انطلاقا من ثوابت ثورتنا وهويتها الوطنية/ الديمقراطية. ولنثق بأنفسنا وبشعبنا، ولنتعلم من تجارب خاضها غيرنا بنجاح، فاوض خلالها أعداءه، ولم يكل علاقته بهم إلى أي طرف خارجي، بما في ذلك أصدقاؤه الذين كانوا يمدونه بالسلاح والخبرات، ويحمون عاصمته.
لن نكون أول ثورة تمد يدها إلى أعدائها، وسنكون أغبى ثورة في التاريخ، إذا ما أبقينا مصيرنا في يد دول تتلاعب بنا، ولا تعيننا على مبارحة مأزقنا، وتبدو سعيدة بإبادتنا.