الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لنتائج الانتخابات في مدينتي دلالات تتجاوزها

لنتائج الانتخابات في مدينتي دلالات تتجاوزها

06.06.2016
نهلة الشهال


الحياة
الاحد 5-6-2016
قراءة نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس، المدينة الثانية في لبنان بعد العاصمة بيروت، لا تستقيم لو قامت على صعيد الدلالات السياسية المباشرة. بل يحتاج فهمها إلى دراية "عضوية" بالمزاج العام لأهل المدينة، ولمحركاتهم، ولواقعهم السوسيولوجي.
المؤكد أنهم اثبتوا مجدداً في مناسبة الانتخابات أنهم يمتلكون سمات شديدة الخصوصية في طرائق تفكيرهم وبلورة مشاعرهم، لعلها تساعد على التقاط معانٍ من قبيل أنهم أبناء مدينة لم تتعرض للاختراق المفتِّت الذي أدت إليه سطوة رأس المال النقدي والتجاري "المعوَلم"، كما هي حال بيروت التي تتركز فيها البنوك والوكالات التجارية وحركة النقل التجاري الأساسية (نحو 95 في المئة من مجمل ما يورَّد ويُستورد في لبنان وعبره)، والصحف والإعلام، وعشرات الجامعات وكل السفارات والممثليات، وبالطبع مؤسسات الدولة قاطبة، ومؤسسات الحكم.
بيروت موطن المركزية شبه المطلقة التي بني عليها لبنان الحديث. لكن ما يعمق نتائج هذا الواقع أن طرابلس كانت حتى أمد قريب مركز ولاية كبرى من الولايات العثمانية، متابِعة في ذلك تاريخاً عريقاً وقديماً يخص أهميتها، ما زال ماثلاً في الوجدان العام لأبنائها وإنْ مشوهاً بمرارة "مظلومية" تهميشها الحالي، تغذيها مظلوميات أخرى لم تتوقف عن التتابع.
وهناك عنصر ثان قوَّى سمات الخصوصية، هو سنوات الحرب الأهلية المديدة التي تُرجمت في طرابلس عزلة شبه تامة عن سائر لبنان، تسببت بها خاصيات تلك الحرب وخرائطها السياسية والطائفية، فيما كان العمق التقليدي لطرابلس، أي سورية القريبة، مغلقاً أيضاً بوجهها.
لكن المظلومية الكبرى التي لم تكف طرابلس عن الأنين بسبب وطأتها على حياة أهلها ومدنيتها وعمرانها، تتعلق بالإهمال المديد لها وما يشبه الكيدية في التعاطي مع شؤونها. فهي تكرست كأفقر مدينة على حوض البحر المتوسط، بنسبة 58 في المئة من سكانها أنفسهم عند خط الفقر أو ما دونه. حُرِم مرفأها، وهو كان حتى الاستقلال أكثر ازدهاراً من مرفأ بيروت، من التوسع والتحديث على رغم كونه ملائماً لذلك من النواحي الطبيعية، ووقع تكتل احتكاري حول مرفأ بيروت أبطاله لا ينتمون إلى طائفة مذهبية واحدة، بخلاف ما يُظن ويُشاع ("الموارنة" في ما مضى ثم "الشيعة" الآن في نظر الطرابلسيين)، بل يجمعهم الطمع بأعلى العائدات لشركاتهم ومصالحهم. وأما التخلص من الوجود السوري في لبنان الذي احتلت قواته "معرض رشيد كرامي الدولي"، والذي يفترض وفق مرسوم إنشائه أنه الوحيد الحائز على الصفة الدولية في لبنان (هندسه المعماري العالمي أوسكار نيماير)، فلم يؤد إلى اشتغاله، بل ما زال ملعباً للرياح ولا تنظَّم فيه فاعليات صغيرة إلا نادراً، كما كان في السنوات التي سبقت الحرب، وهو الذي لم يُنجز بناؤه أبداً. ولم يفكر أحد في كيفية استغلال موقع مصافي شركة النفط بمساحاتها الهائلة وما تبقى من منشآتها، وبالطبع في الإمكانات السياحية الفريدة للمدينة. بل إن مؤسسات عادية، كمحطة توليد الكهرباء وأخرى لتكرير الماء وثالثة لمعالجة النفايات قامت وجُهزت بتمويل من الاتحاد الأوروبي... لم تعمل، إما كلياً أو جزئياً في أحسن الأحوال. كما لا يفهم الطرابلسيون كيف دارت جولات العنف المتتالية في مدينتهم (22 جولة بين عامي 2008 و2014)، وحصدت مئات الأرواح ودمرت الممتلكات وأتت على ما تبقى من حركة تجارية، وكيف توقفت فجأة. ويرون في ذلك تلاعباً بهم لأغراض يسمونها "سياسية"، أي تخص مصالح من يُقال لهم "الزعماء" وصراعاتهم ومنافساتهم. وما زال عشرات من أبناء المدينة معتقلين، وبعضهم بلا محاكمات، بتهم تتعلق بالانتماء إلى جماعات مسلّحة، وهو ما يرون فيه تنكيلاً خصّتهم به "الدولة".
الفقر المدقع إذاً وتجاهل الإمكانات القائمة وانعدام أي أفق والإهمال والظلم والتلاعب، يقابله بطرٌ وتعالٍ... استفز بعمق المشاعر العامة. وعلى خلفية ذلك، جرى الاصطدام ب "تيار المستقبل" مراراً، وبسعد الحريري ووكيله أحمد الحريري شخصياً ومباشرة، وحول عناوين تنموية أو سياسية، كانت البلدية المعطلة بصورة دائمة و "كاريكاتورية" عنواناً دائماً لها. وكانت آخر حلقات ذلك الاصطدام العاصف إصرار الحريري غير المفهوم على فرض إنشاء مرآب في ساحة التل التاريخية، فاحت منه روائح تنفيعات وسمسرات، بالضد من مصلحة المدينة، ومن إرادة أهلها كما عبروا عنها بإصرار، وكذلك ترشيحه لسليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية. كما كانوا يحملون ضغينة لبعض "مليارديرية" طرابلس ممن لم يلتفتوا إلى بؤسها، بل ممن يخالفون تقليداً عريقاً فيها يمقت البذخ والتباهي بالثروات مهما عظمت.
واستفز أهل المدينة كذلك وفي شكل قوي التحالف الذي نشأ للانتخابات البلدية (سموه "محاصصة") وجمع أضداداً تبدأ من "تيار المستقبل" وتمر بميقاتي والصفدي (وبينهم هم الثلاثة تنافس مشهود)، وتشمل فيصل كرامي وتعرِّج على "الجماعة الإسلامية" وحتى "جمعية المشاريع الإسلامية" ("الأحباش")، على ما بين كل هؤلاء من عداوات. واستفزهم استثناء اللواء أشرف ريفي الذي ينتمي إلى هذه البيئة نفسها، ما قُرىء كتأديب له لخروجه عن الطاعة، أو لتفرده بمواقف. ولا يُنظر في طرابلس إلى ريفي كممثل لتيار سياسي، بل كزعيم له خلفية عسكرية، يناهض "حزب الله" ممثل التغوُّل الشيعي في نظر أهلها، أي محفّزه وحاميه. وهذا ما منح الرجل صفة أكثر محلية، يطابِق ذلك الشعور بالعزلة كما بالمظلومية نفسها التي رأوا أنها تطاوله شخصياً باستبعاده، بل بمعاقبته. فتركّزت عليه مشاعر هي عابرة له وأكثر عمقاً وتجذّراً مما يُظن.
وزاد الطين بلة أن اللائحة التكتلية تلك تصرفت بثقة عالية بالفوز، وصلت إلى النكث بوعود بمنح "مساعدات" لمفاتيح انتخابية أو كتل من الناخبين. ولعل ذلك ما حمل أبناء منطقة شعبية كباب الرمل على تعليق لافتات تقول إنهم مقاطعون للانتخابات!
وأما سقوط المرشحين المسيحيين والعلويين فوقع بسبب التطاحن بين الكبار وليس استبعاداً لهؤلاء بصفاتهم تلك. لذلك، وبينما هم الأضعف لجهة القاعدة الانتخابية، توزعت أصوات المقترعين المخصوصين لهم على أكثر من اسم... وليست في ذلك السقوط علامة على تشدُّد مذهبي أو تعصُّب ديني. كما لا يتحلّى طرف دون سواه بخاصية الاعتدال أو التطرف.