الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ليس دفاعاً عن أميركا

ليس دفاعاً عن أميركا

30.11.2013
مرح البقاعي


الحياة
الجمعة 29/11/2013
ماذا يحدث حين تنـكفئ الولايـات المـتّحـدة عن ريادتها في إدارة الملفات الأكـثـر سخونة وتعـقيداً في السـيـاسة الدولـية وفـي مقدّمـها قضـايا الـشرق الأوسط بعيد ثوراته العسيرة الولادة؟ وما هو موقف الصقور الأميركيين من هذا التراجع لدور بيتهم الأبيض في قدراته من السيطرة على اندلاع العنف المـذهبي والطـائفي الميليشياوي في العراق، على سـبيل المثال لا الحصر، وانتشاره انتشاراً سرطانياً في دول الجـوار ولا ســيما سورية التـي تعاني من مخـاض ثـورتها المـاجـدة؟ وكيف يقرأ مثقفو أميركا التراجع السياسي لنشر الفكر الديموقراطي الأميركي، فعلاً لا قولاً، وهو الفكر الـذي يحـمـيه الدسـتور الأمـيركي ويعـزّز تأثيـره في حركات التحرّر العالمية من خلال تبنـّيه لـحـقوق الإنسان في الحرية والعـيـش الكـريم والتعبير عن الرأي؟ وأخيراً، ما هو مســتقبل القرار الــحسم في المعضلات السياسية الدولية التي تهدّد الأمن والاسـتقـرار العالميين حين ينتقل هذا القرار من اليد الأميركية إلى اليد الروســية الطامحة لاستعادة دورها، وبأي ثمن، كقطب عالمي فاعل ومؤثر مقابل عالم وحيد القرن؟ وهل مستقبل أميركا السياسي كقوة عظمى هو في طريقه إلى الانحسار في ظل تقدّم قوى كبرى صاعدة بإصرار وفي مقدّمها الصين وإيران وروسيا؟
لم تكن رحلة كريستوف كولومبوس المشهودة، وقد قادت إلى اكتشاف القارة الأميركية، سَفَراً في المكان وحسب، بل شكّلت نقطة انطلاق إلى عوالم زمن مغاير، زمن أسس لنشوء أمّة على رقعة جغرافية قاريّة الامتداد، أمّة تشكّلت من موزاييك بشري عماده كوكبة من المهاجرين الذين تحدّروا من قوميات وأعراق وديانات العالم كافّة، أمّة عابرة لحدود الثابت والممكن في حالة عامة من التناغم الاجتماعي ومن التماهي في تيار الحريات الموصولة التي لا تنقطع إلا عند مفرق انتهاك القانون ـ الابن الشرعي للدستور الذي خطّه الآباء المؤسسون، الدستور الذي يقارب وثيقة تاريخية من أهم ما أنتجت وصدّرت الولايات المتحدة إلى الشعوب، والذي كانت وما زالت بصماته تظهر ساطعة على معظم دساتير الديموقراطيات في العالم. وقد خطّ توماس جفرسون واضع الدستور الأميركي، وواحد من المؤسسين للنظام الجمهوري الديموقراطي، على هوامش الدستور، في محاولة سابقة لزمنها تهدف إلى "عولمة" الفكر الديموقراطي الأميركي الأول بالقول: "من المستحيل أن لا نشعر بأن عملنا مسخّر من أجل الإنسانية جمعاء".
برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة في مستهل القرن التاسع عشر، ما شكّل التحول البنيوي الجوهري الثاني في التاريخ العالمي الحديث. إلا أن القرن العـشرين، ومـا شهده من حروب أميركا في العراق وأفغانستان، شـهد تحوّلات دولية عميـقة، وعلى المـستويين الرسـمي والـشـعبي في آن، في الموقف العام من العملاق الأميركي، انبـنت هذه التحوّلات على قصور أميركا في إدارة هذه الحروب وملحقـاتها، ما أدى إلى تهـيئ المـناخ اللازم لصعود القـوى المنافسـة للـنهج السيـاسي الأنغلوسـيكـسوني الأمـيركـي واحـتدام صدام هذه القوى مع أرباب البيت الأبيض على اقتسام كعكة إدارة النزاعات والقرار في العالم.
وانقسم المفكّرون بين من تبنّى فكرة انحسار "الإمبراطورية الأميركية" كما اجتهد المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى"، وبين من يرى أن الولايات المتحدة ستظل فاعلاً أساساً في أي نظام دولي مستقبلي، كما يرى الديبلوماسي الأمـيركي ريتشارد هاس في "عالم بلا أقطاب". أما فريد زكريا، الكاتب الأميركي من أصل هندي، فيفيد في كتابه "ما بعد العالم الأميركي" أن دور أميركا سيستمر في تحديد الأجندة الدولية، وترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات المعولمة، وتعبئة الموارد، والقيام بدور الوسيط العالمي في عالم يحاول أن ينأى بنفسه عن مشهدية القطب الأحادي.
بالنظر إلى خريطة النمو الاقتصادي العالمي نجد أن دولاً كبرى مثل الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، قد تمكّنت من تحقيق نتائج لم تكن مرتقبة على صعيد النمو المالي والتنموي والعمراني. فبينما انهار مبنيا التجارة العالميان في نيويورك في هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 يرتفع أعلى مبنى في العالم اليوم في مدينة تاي بي، والذي فقد ريادته العالمية بعد تطاول برج دبي في سماء الإمارة الخليجية. كما أن الرجل الأكثر ثراء في العالم مواطن مكسيكي من أصل لبناني ويدعى كارلوس سليم الحلو وهو ليس أميركياً، وأكبر مجموعة تجارية (سي تي جي) مؤسسة صينية. إلا أن هذه المعطيات مجتمعة لا تعني، بالضرورة، أن الولايات المـتحدة الأمـيركـية ستـفقـد ريـادتـها العالميـة. والأمـر الـذي يرجّح هذا الاحـتـمال هـو أن القـوى الصـاعـدة ضـمن التـحوّل الـعالمي الـحـالي ليست جـميـعها قـوى معادية للولايات المتـحدة.
هذا ناهيك عن أن الفضل الأكبر في صعود القوى العالمية الجديدة يعود، في جزء كبير منه، إلى السياسة الأميركية نفسها. فخلال العقود الستة الماضية، لعبت الديبلوماسية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة دوراً كبيراً في نشر آليات اقتصاد السوق، وتمكين الحريات السياسية، وتوسيع التجارة العالمية، وتطوير التكنولوجيا وعالم الاتصالات، علاوة على اتسام الاقتصاد الأميركي بالدينامية، وعلى كون الولايات المتحدة من أكثر بلدان العالم "شباباً" من الناحية الديموغرافية، وأعظمها استقطاباً للأدمغة والخبرات والروافد البشرية من أرجاء الأرض كافة. بالمقابل، فإن قوة من حجم الاتحاد الأوروبي ما زالت تنقصها الوحدة القومية اللازمة للعمل القيادي الدولي، وهي لا تحرك على الساحة الدولية كدولة واحدة، كما أن روسيا تواجه تحدّيات اقتصادية وسياسية داخلية تمنعها من لعب أي دور حالي في قيادة العالم.
فصل المقال أن الولايات المتحدة لم تزل تحمل في جيناتها ما يلزم من كروموزونات الصبا الدائم والحيوية السياسية، وما زالت منيعة عن الإصابة بوهن وترهل الدول الشائخة، وهي ستبقى تدير الدفة الدولية لزمن لا يستهان بامتداده في شريان عالم الألفية الثالثة. أما الانحسار الأميركي عن لعب الدور المطلوب منها في الشرق الأوسط في ظل التغييرات والانقلابات الحالية المسيطرة على المناخ السياسي في دول الربيع العربي العسير الولادة، وفتح الأميركيين طوعاً الطريق لروسيا لتتعاطى، بشكل شبه أحادي، مع بعض الملفات هناك، فليس في تقديري سوى فعل تكتيكي عابر يهدف إلى "توريط" روسيا للانغماس بعيداً في دعمها للنزعات السياسية البوليسية التي تشكّل بذور "دولة عميقة" تنقلب على طموح وإرادة شعوب الربيع العربي في بناء مؤسساتهم المدنية الدستورية الديموقراطية في غير دولة عربية، ولتنفرد هي في إدارة الملف الإيراني الذي سيحدّد، إثر تسويته، شكل وتوزّع وتأثير القوى المتنامية في المنطقة.