الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لٍمَ ينزع المشرق إلى الانتحار؟

لٍمَ ينزع المشرق إلى الانتحار؟

10.11.2014
غازي دحمان



المستقبل
الاحد 9-11-2014
يتساءلن كل من يعيش هذه اللحظة المشرقية، الملونة بكل أطياف القسوة والعنف، عن السبب الذي أدى إلى هذا الانزياح الرهيب صوب هذا المآل، وعن الأسباب التي تؤدي إلى إدامته والاستغراق به زمناً طويلاً.
لا تكفي الإجابة برد ما يحصل لأسباب تاريخية سحيقة، ليس لأن تاريخ التعايش والقبول بالآخر ودوامه فترات طويلة يفند الادعاء، بل لأن ذلك التاريخ لا يوجد بشأنه إجماع قاطع، إذ من شأن من يتفحص سرديات ذلك التاريخ سيجدها أسفاراً متباينة ليس لدى كل فرقة ومذهب، ولكن لدى أصحاب المذهب الواحد نفسه، فأغلب السنّة العرب يمجدون آل بيت محمد، وأغلب الشيعة العرب يفاخرون بإنجازات الدولة الأموية، وغالبية الطرفين تنظر لذلك الخلاف التاريخي من منظور سياسي أكثر منه ديني.
ثمة من يذهب بتحليله إلى أن الخلاف ظل متلطياً ينتظر مجيء اللحظة المناسبة والمناخ المؤات لإطلاق دينامياته وتفجير صواعقه. وها هي اللحظة تهبط من السماء كاملة المواصفات، انهيار السلطات المركزية وحلول الفوضى، بل يدعي أن العدة التشغيلية كانت حاضرة وجاهزة وبانتظار أمر العمليات ليحدث ذلك الحريق اللهيب. لكن أيضا، وبتفحص التاريخ السياسي للمنطقة، يتبين أن الفوضى وانهيار السلطات المركزية كانت السمة الأساسية منذ قرون طويلة، وأن حالات الضبط كانت هي الاستثناء، ومع ذلك تعايشت المكونات بشكل طبيعي. حتى أن الصراعات التي حصلت في فترات معينة وبخاصة في جبل لبنان، كانت ذات طبيعة طبقية اجتماعية، وحتى لو لم يعِ أصحابها هذا البعد، صراع الفلاحين الموارنة مع ملاكي الأراضي الدروز.
يدفعنا نفي الجذر التاريخي لهذا الصراع إلى البحث عن أسباب أكثر قرباً، وغالباً ما نجد تفسيراتها المنطقية في طريقة إدارة الكيانات السياسية على مدار العقود السابقة، والمناهج التي اتبعتها في تلك الادارة والأدوات التي استخدمتها في التنفيذ، فضلا عن الأيديولوجيا التي استخدمت لتسويق هذا النمط من الحكم.
على مدار العقود السابقة، رسخت الإدارة السياسية لمجتمعاتنا انحرافات هائلة على كل المستويات، بل وذهبت إلى حد مأسسة هذا الانحراف، من خلال بنى سياسية تغلغلت في كل نواحي الحياة الاجتماعية، ومارست سطوة عنفية هائلة، كان من نتيجتها تحطم المجال الاجتماعي الموازي وتهشيمه، بعد أن استنزفت مكوناتها عمليات الجري وراء تأمين لقمة العيش، نتيجة استنزاف موارد الدولة في مشاريع غير واقعية، لا جدوى منها سوى تأمين أبدية الحاكم وقدسيته. وهكذا تبين، بعد خمسة عقود، أن الحروب العربية - الإسرائيلية، لم تؤدِ سوى تحطيم المجتمعات العربية واستنزافها، وان الحروب العربية - الإيرانية لم تخرج عن هذا الإطار، كما أن مشاريع الاشتراكية وإحلال الواردات والمشاريع الاقتصادية الكبرى لم تحقق غايتها في تحقيق الرفاه والإشباع، بقدر ما كرّست واقع الزعامة المطلقة للحاكم، مع ما يرافقه من رفع وتيرة الاستبداد إلى أقصى درجاتها، بذريعة متطلبات الامن وحماية مكتسبات الشعوب!
وفي الطريق إلى إنجاز هذا التحول، عملت نظم الحكم في منطقتنا على تحطيم كل البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإعادة دمجها ضمن السياق السلطوي الذي صنعته في هذه الأثناء، ولم تترك لها خيارات أخرى غير الالتحاق في خدمة السلطة أو الانتحار المجاني تحت طائلة وسمها بالرجعية والعمالة للاستعمار، حصل ذلك في العراق وسوريا ومصر بشكل فج ومنفر، في حين تكفّلت أليات أخرى في إنتاجه في لبنان، غير ان تلك البنى التابعة للسلطان لم تكن سوى منظومة لإنتاج التخلف والخراب والتشوه الذي سيتراكم منتظرا لحظة الانفجار.
نتيجة ذلك، لم تغلق فقط أمام مجتمعات تلك الكيانات أبواب الحداثة والتطور، لكن أيضا مساحات العيش الآمنة، وفي موازاة ذلك كان الانحراف يؤسس جماعاته الخاصة في قلب كل المكونات، وبخاصة بعد أن تكشّفت لها البنى السلطوية بوصفها بنى فاسدة تتشاطر على مجتمعاتها، ولم يكن ثمة بدائل للتعايش مع هذه الوضعية سوى بإتباع طريقة التشاطر، أو رفضها، ولكن أيضاً بطريقتها العنيفة، والتي تحمل طابع الغدر واللاإنسانية في الكثير من سلوكياتها. ومثلما استطاعت بنى السلطة الفاسدة شرعنة عنفها وفسادها، بدعوى حماية الثورة والدولة، استنسخت بنى التشوه الحديثة مبررا شرعيا يقوم على حماية الدين والوقوف بوجه المخالفين لشرع الله، ماداموا لا يستطيعون محاججة آلهة السياسة في مجالهم السياسي الذي تم احتكاره، فإن مجال الدين أوسع من أن يتم احتكاره.
حسناً، لكن ألا يحمل هذا التحليل شبهة التملص من المسؤولية الاجتماعية والانحياز الكلي لمجتمعات تبدو بريئة، وإلقاء تبعات الخراب على البنى السياسية المتجسدة في نظم بعينها، نظام البعث في سوريا والعراق، والنظام الناصري في مصر؟ الواقع، أن مجتمعاتنا في لحظات تاريخية معينة كانت شريكة، بل وأداة، في صناعة هذا الخراب اللاحق، وليس في الأمر تجن. إذ وقبل الربيع العربي لم تشهد منطقتنا أي شكل من أشكال الحركات المجتمعية رفضا لتلك العلاقة الغير متوازنة مع البنى السلطوية. ظلّت تلك المجتمعات ساكنة لدرجة مستفزة، فلا هي طوّرت أساليب اعتراضية حقيقة ولا هي استطاعت تحقيق تحولات لصالحها في تلك العلاقة المشوهة، وحتى عندما ثارت على حكامها ومستبديها، اكتشفت انها ضخت فائضا كبيرا من القوة في عروق تلك السلطات، بحيث أصبح كسرها صعباً، وأنها لم تبن قوة مقابلة كافية لإزاحة تلك السلطات. لذا، فهي إما غرقت بالخراب كما حصل مع السوريين، أو رضيت بأقل القليل كما حصل مع المصريين.
وعلى مدار عقود، سنكتشف أن الأفكار الثورية التي طرحها مثقفونا كانت نادرة، وظلّوا واقعين بين حدين لم يستطيعوا تجاوزهما، حد التملق للحكام، وحد مسايرة التقليدي والتراثي في مجتمعاتهم. لم تستطع نخب الثقافة والفكر العربية تحرير أفكار مجتمعاتها وسلوكياتها من الثيوقراطية الدينية والعقلية البدائية، وكان ذلك بالإضافة للتشويه السلطوي، أحد العوائق أمام تأسيس ثقافة مدنية جريئة وواعية.
طبيعي جداً، بعد كل هذا، أن يكون صراعنا وحشياً، لأن البديل ظل دائما هو الأسوأ ما فينا، لا نملك أدوات صراع أكثر مرونة. وبالتالي، من الطبيعي أن يعتلي صهوة المرحلة من هو الأكثر قدرة على التطرف، لأنه الاكثر دراية بإخراج أسوأ ما فينا.