الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مآلات جنيف 2

مآلات جنيف 2

05.02.2014
العزب الطيب الطاهر


الشرق القطرية
الاثنين 3/2/2014
كانت الأحلام عالية السقف في مؤتمر جنيف 2 والذي انطلقت أعماله في الثاني والعشرين من يناير المنصرم. خاصة الأطراف الإقليمية والدولية التي سعت إلى التئامه وحشدت الجهود ومارست الضغوط على طرفي الأزمة السورية للمشاركة فيه. مستخدمة منهجية العصا والجزرة وبالذات الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية واللتين تبدوان وكأنهما استعادا حالة القطبية الثنائية التي كانت تحكم العالم بمشاركتهما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي الذي ورثته حكومة روسيا.
بيد أن وقائع الأيام العشرة الأولى التي جسدت المرحلة الأولى عكست حالة مغايرة تماما لسقف التوقعات. وبدا الأمر من قبل النظام والمعارضة السورية وكأنه مجرد ناد للتنفيس عن المواقف التي تختزنها القلوب والأفئدة. وإن كنت لا أضع المعارضة في نفس الخندق الذي يقيم فيه النظام وإلا أكون قد ساويت بين الجلاد والقاتل والضحية والمقتول وهو مالا يتسق مع الحد الأدنى من القواعد الأخلاقية في التعامل مع ثورة شعب سعى إلى تحقيق أشواقه الكبرى في دولة مدنية ديمقراطية تعددية تقوم على المواطنة والمساواة والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وهي المبادئ نفسها التي تحركت من أجلها شعوب مصر وتونس واليمن ولبيبا في ثوراتها المدهشة التي أسقطت نظما شديدة في استبدادها قاسية في جبروتها وتفتقر لكل أسباب استمرارها.
إن أهم نتيجة حققتها المرحلة الأولى من جنيف 2 تتمثل في أنها كسرت الحاجز النفسي بين طرفي الأزمة والتعبير ذكره لي السفير أحمد بن حلي نائب الأمين العام للجامعة العربية عندما سألته عن تقويمه لهذه المرحلة ودون ذلك لم يحقق المؤتمر أي مقاربة حقيقية باتجاه ما يتجاوب مع نصوص وثيقة مؤتمر جنيف 1 الذي عقد في نهاية يونيو من العام 2012. وهي النصوص التي توافق عليها الكبار خاصة واشنطن وموسكو وباريس ولندن وبعض الأطراف الإقليمية مثل تركيا ومصر وقطر وغيرها لتشكل الأساس والجوهر الذي يتعين أن تمضي المفاوضات بين ممثلي النظام السوري والمعارضة باتجاهه وهو ما لم يتحقق حتى ولو من باب الإشارات. فقد أغلق ممثلو النظام الذين كانوا يمارسون نوعا فجا من الاستعلاء على ممثلي المعارضة سواء في الغرف المغلقة أو في التصريحات العلنية الباب أمام أهم بند في وثيقة جنيف 1 والتي تتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالية من الطرفين تكون لها صلاحيات واسعة. بما في ذلك على القوات المسلحة وقوات الأمن وأجهزة الاستخبارات وهي أدوات أي سلطة قوية تكون مهمتها الإشراف على المرحلة الانتقالية التي يعد خلالها دستور جديد للبلاد وتمهد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وأظن أن وراء هذا الرفض الواضح والذي عبر عنه غير مرة وليد المعلم وزير خارجية النظام السوري وبثينة شعبان مستشارة الرئيس السوري. تعليمات مشددة من قبل بشار نفسه والذي يعلم يقينا أن تطبيق هذا البند على أرض الواقع لا يعني شيئا سوى إزاحته من عرشه الذي يتربع عليه منذ مطلع الألفية الجديدة. وريثا لوالده حافظ الأسد وذلك يعني بوضوح أن كل القابضين على النظام سيتساقطون ويفقدون مزايا التزاوج بين السلطة والمال الغارقين فيها على نحو أخطبوطي لا يسمح لأي طرف أو شخص آخر بالاقتراب منه ودون ذلك الموت.
وعندما المتابعة الأخيرة لتصريحات وليد المعلم في اليوم الأخير من الجولة الأولى من جنيف 2 – الجمعة الفائتة – يمكن رصد صدى هذه المواقف المتشددة وهواجس رموز النظام. فقد هدد بعدم العودة مجددا إلى المشاركة في الجولة الثانية التي ستنطلق في العاشر من الشهر الجاري ووجه الاتهامات لوفد المعارضة واعتبره غير ناضج سياسيا. دون أن يشير إلى تصلب مواقف ممثلي نظامه والتي أدت إلى حالة مراوحة المكان في الأزمة السورية.
والمدهش أنه في الوقت الذي انطلقت فيه مفاوضات جنيف 2 ظل الجيش الحكومي لم يتوقف عن توجيه ضرباته ونيران أسلحته ضد المناطق التي حررها الثوار مواصلا استخدام البراميل المتفجرة. مما أدى إلى مقتل أكثر من 500 شخص خلال الجولة الأولى من المفاوضات فهل يتسق ذلك مع جوهر القواعد الأخلاقية التي تحتم تجميد الأعمال العسكرية على نحو يعطي الأولوية للحوار السياسي الذي تحتضنه جنيف ؟
بالتأكيد لا وهو ما يؤشر إلى أن نظام بشار مازال مصرا على منهجية الحل العسكري والأمني. مستعينا في ذلك بمليشيات حزب الله اللبناني الذي كنت أظنه حزبا يتعالى على الطائفية ويوفر طاقة مقاتليه لمواجهات قادمة مع العدو الحقيقي للأمة وهو الكيان الصهيوني غير أن الأشهر الفائتة أثبتت أنه مجرد حزب طائفي. ويبدو أنه تجاوز البعد المقاوم الذي كان يميزه وحظي استنادا إليه على غطاء شعبي عربي فضلا عن الاستعانة بمليشيات شيعية عراقية ويمنية. إلى جانب الدعم اللوجستي سواء بالسلاح والخبراء من قبل الحرس الثوري في إيران أي أنه دفع بالأزمة إلى دائرة طائفية. بحيث يبدو الأمر وكأنه صراع بين منتمين إلى المذهب الشيعي وخصومهم من المنتمين إلى المذهب السني. وهي أطروحة تصب في خانة أعداء الأمة وألقت بظلالها بكثافة على أزمات أخرى في المنطقة العربية.
وثمة فشل آخر لمؤتمر جنيف 2 في مرحلته الأولى يتصل بالعجز عن إجبار النظام لفك حصاره عن المناطق المتضررة والمنكوبة بضرباته وبراميله الحارقة . خاصة في حمص وحلب رغم التوافق الذي جرى في أروقة جنيف 2 بشأن ذلك. وهو ما يؤكد أن نظام بشار يتسم بالقسوة المفرطة وهو ما يتناقض مع زعمه اتكاءه دوما على الشعب السوري. بينما هو يمارس في الواقع كل ما من شأنه أن يسهم في توسيع أفق المعاناة والمكابدة لهذا الشعب الذي خرج الملايين منه باحثين عن ملجأ سواء في داخل البلاد أو إلى دول العالم. وجعل من شعب معروف عنه عشقه للحياة لا يجد البعض منه لقمة الخبز أو حبة الدواء أو غطاء بسيط ليقيه من برد قارس في زمهرير الشتاء فمات العشرات في المنافي خلال موجة الصقيع التي طالت المنطقة في شهر ديسمبر المنصرم.
لست من دعاة الحل العسكري القائم على الاستعانة بالتدخل الخارجي لهذه الأزمة. ولكن يبدو أن بشار الأسد بات يشعر أنه خرج من دائرة التهديدات بتوجيه ضربات موجعة لأركان نظامه. خاصة آلته الحربية التي وظفها بدرجة عالية من الكفاءة في قتل شعبه ومحاصرة مدن وطنه. ظنا منه أنه بذلك سيخمد واحدة من أهم ثورات العرب ولكنه بالتأكيد هو مخطئ تماما في تقديراته ومعادلاته التي يدير من خلالها الأزمة.
والبديل المنطقي للتدخل العسكري الأجنبي يتمثل في توفير الدعم اللوجستي بكميات وفيرة ونوعية متقدمة وفتاكة للثوار القادرين على هزيمة النظام إن توافر لهم هذا الدعم خاصة من الأشقاء العرب. أو أن يرحل بشار هو وزبانية نظامه لبناء سوريا الجديدة الخالية من استبداد وقمع وقهر امتد طويلا، آن له أن يخفت ويتلاشى أو يذهب إلى الجحيم.
فلننتظر الجولة الثانية والتي لا يبدو لدى أي قدر من التفاؤل باتجاه تحقيق اختراقات جوهرية في مواقف نظام بشار المتعجرف والمتغطرس والعدواني.