الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مات الموت أم ذعر الذعر

مات الموت أم ذعر الذعر

09.04.2014
عيسى الشيخ حسن



الشرق القطرية
الثلاثاء 8/4/2014
ولأن حلب كانت مدينته، ولأنه قضى فيها تسعاً لم يتممهنّ بعشر، فقد كان أبا الطيب صاحب الرمح والقرطاس، والفتكة البكر، ولأنها حلب التي مكنته من منبر المجد والخلود، فقد جرت على لسانه، غير مرّة، ولكن بعد رحيله عنها، فهكذا الحبيبات لا يباح بأسمائهن، لأنهن يسكنّ منطقة السرّ القصيّ، الذي لا نصله إلا على مركب الموت، وحلب الآن مدينة تتقاسمها السيوف والحتوف، متحف الجوريّ، ومستراح الهيل والمسكة والزعفران قبل أن تمضي القوافل غرباً نحو البحر.
كان أبو الطيب يستريح بعباءته البدوية هناك، واقفاً في ظلّ عمارة عالية، ينتظر قافلةً ذاهبة إلى العراق ليزور جدّته، كان الصباح طريّاً، والنساء العفيّات يقفن على التنانير بعجينٍ وأغانٍ، وكان أبو الطيب باحثاً عن حسن الحضارة المجلوب، فينسى طحين ابن كلثوم إلى حين، ويسأل عن رحى السوريين، فقد تزاحم على حجريها أهل الشرق والغرب، وباتت لهوتها " قضاعة أجمعينا"، ولكن الخبز الحلبيّ (الطابونة) في ذاك الصباح أنسى الرجل القافلة، وكأن العراق الذي فيه كلّها تنادي: " من ورا التنور ناوشني رغيف".
وحلب رغيف لا ينقص، وإن تعثرت بالقحط والحرب، حلب تبتكر لكلّ موت ألف حياة، ولكلّ عاصفة نشيداً، ولكل ربيع خضرة، وحلب التي احتملت عنفوانك يا أبا الطيب، ومسّدت لك أعراف النصوص وخضبت لك أسباب الحياة، فصرت تنام قرير العين، تسعى إليك المعاني في الثغور، وموج المنايا متلاطمٌ، والقنا يقرع القنا، وما يفهمُ الحّداث إلا التراجم، كان الموت الحلبيّ شهوة غريب من أبنائها هجرها شابّاً، فأخذت بألباب ذكرياته، وكانت الحياة طيبة، فهم السمّيعة وأهل الذوق.
والآن.. أكاد أشمّ من تنّور الموت ذاك الطعام الغريب، أشمّ الردى غير ما ألفته عافية الأمم، وغير ما أبقته شيمة الحرب، فليس الكريم على القنا بمحرّمِ، والآن.. يمكنك أن تخطف نصوصك إلى أقرب ملجأ، أو مخيم نازحين، يمكنك أن تسأل عن جدّتك في أيّ مستشفى ميداني، أن تسأل عن خصوم الأمس وأعداء الكار، عن ابن جنّي وأبي علي الفارسي عن أبي فراس، عن كشاجم والفارابي، عن البلاط والعرش والخيل المطهّمة في انتظار الغارة، والسيوف في أيدي الحدّادين الذين يملأون سمع المدينة بإيقاعات تتدبّر لكل حربٍ نشيدها. ستجد أن الخيول لبست أجنحتها وعادت إلى أهلها بالبراميل، وأن السيوف استحالت سواطير.
الشيخ الذي سئم تكاليف الحياة، أخبرنا أن رحى الحرب رهيبة، والشاب الطائي الذي أوجعه مصاب أهله من ربيعة الموصل رأى أنها تقتّل من وترٍ أعزّ نفوسها ما تكاد تطيعها، وأنا هنا ألوّح لكم من بعيد.