الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ماما ميركل!

ماما ميركل!

07.09.2015
عمر قدور



المستقبل
الاحد 6/9/2015
حظيت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في الأسبوع الأخير، بمديح لم يحظَ به زعيم غربي على صفحات التواصل الاجتماعي السوري. وكما هو معلوم كان المكتب الاتحادي الألماني للهجرة واللاجئين قد أصدر تعليمات تقضي بتعليق إجراء بصمة دبلن على السوريين الذين يطلبون اللجوء في ألمانيا، وعلى وجه الاستعجال غزت صور ميركل صفحات الفايسبوك بوصفها صاحبة "المكرمة" الجديدة، وراحت التعليقات تتوالى مقارِنةً بينها وزعماء آخرين لم يقدّموا للسوريين مساعدة شبيهة.
قلة من التعليقات على الحدث ذكّرت بأن مأساة السوريين سياسية في المقام الأول، وأن مساعدتهم الأهم هي في التخلص من النظام الذي يتسبب بباقي المآسي، أما التذكير بموقف حكومة ميركل السياسي من الملف السوري فقد انعدم كلياً أمام الامتنان الحالي. لقد تقدّمت المستشارة الألمانية لتُطوَّب "ماما ميركل" عطفاً على "إنسانية" موقفها من اللاجئين السوريين، ونُسي أمر الموقف الرسمي الألماني يومَ مجزرة الكيماوي، حيث كانت المستشارة من أشد الأوروبيين معارضة لمعاقبة النظام، ونُسي أيضاً ما سُرّب من تقرير للمخابرات الألمانية يبرّئ بشار الأسد من إعطاء أمر باستخدام الكيماوي، بل وينص على أنه رفض مراراً طلبات "قادة الجيش" استخدامه.
ثم إننا، ونحن نتابع الأخبار الواردة عن حفاوة الألمان باستقبال السوريين، لا نلحظ أدنى تطور في الموقف السياسي للحكومة الألمانية، إذ نفترض منطقياً أن يثير قدوم تلك الدفعات الضخمة من أصحاب المأساة شهية الإعلام للبحث عن أسباب مأساتهم. لكن النزوع الإنساني، الذي ينبغي تقديره تماماً، لا يترافق بتقدم في الموقف السياسي أو الإعلامي، ومن الضروري أن نسترجع هنا أحاديث أصدقاء ألمان يشكون منذ بداية الثورة من تواطؤ الإعلام والحكومة على تجاهل الحدث السوري، وفي أغلب الأحيان التطرق إليه بما يخدم النظام.
المفارقة بلا شك ستزداد عندما نلاحظ أن موقف الحكومة الفرنسية المتقدّم سياسياً، والذي كان متحمساً لإسقاط الأسد، لا يقابله تطور فيما تقدّمه للسوريين على صعيد الاستضافة. بل العكس هو ما يحصل، فبعد اعتداءات شارلي إيبدو صار واضحاً التناقصُ المطرد في عدد طلبات اللجوء التي تقبلها السفارات الفرنسية، وتغلّبَ همُّ الأمن الذاتي على الاعتبارات الإنسانية. أكثر من ذلك، تشديد الإجراءات في حق السوريين المنكوبين يتهمهم ضمناً بأنهم سيتسببون بمزيد من الإرهاب، مع أن فرنسا تُعدّ في طليعة الدول الأوروبية التي صدّرت المقاتلين الأجانب إلى الساحة السورية، وثمة شك كبير في أن تشديدها على الداخلين يماثله تشديد على الإرهابيين المغادرين من حملة جنسيتها. بالطبع، المفارقة لن تكبر بالحديث عن دول عربية "صديقة للشعب السوري" لم تفتح أراضيها للاجئين، فالمعاتبة لا محل لها مع حكومات لا تحترم حقوق الإنسان أصلاً.
في سياق متصل، أعلنت الخارجية الأميركية في الوقت نفسه أنها ستستضيف ما بين خمسة آلاف لاجئ وثمانية آلاف لاجئ سوري في عام 2016. ما يجدر التوقف عنده ليس ضآلة الرقم المعلن قياساً إلى القوة الأعظم في العالم، وإنما ما يضمره هذا الإعلان من أن القضية السورية لن تجد لها حلاً في السنة المقبلة أيضاً. لندع جانباً ما تتباهى به الإدارة الأميركية من حجم المساعدات الإنسانية التي قدّمتها إلى مخيمات النازحين، فمجملها يكاد يساوي تقريباً الميزانية المرصودة لتدريب 15 ألف مقاتل معتدل حسب وصف الإدارة، وهذه المقارنة كفيلة وحدها بتوضيح ضآلة المساعدات الإنسانية قياساً إلى ما لا يقل عن مليوني نازح سوري فقط في مخيمات الجوار.
وعلى الرغم من أن استفاقة العالم على معاناة النازحين أمر محمود، إلا أنها تتزامن مع أمرين بالغي الأهمية؛ أولهما ما يشيعه الروس، ولا تنفيه الدول المعنية، من قبول غربي بمبدأ مشاركة الأسد في المرحلة الانتقالية، وأن الخلاف حالياً على مسألة تنحيه في نهايتها. ثانيهما خطة المبعوث الأممي دي مستورا التي تمهد لمفاوضات طويلة الأمد بلا شروط مسبقة، أي من دون إلزام النظام بوقف الحرب على السوريين والتسبب بمزيد من الإبادة وموجات النزوح. باختصار، يعكس الاهتمام الإنساني الحالي تراجعاً واضحاً على المستوى السياسي، بل يعكس نية معلنة في عدم العمل على حل فعلي لمشكلة النازحين التي تبدأ بأسباب النزوح. العالم ليس بحاجة إلى رشوة السوريين إنسانياً كي يغطي على تخاذله، أو حتى على المساهمة الحثيثة لقسم منه في إطالة عمر مأساتهم؛ هذه الالتفاتة موجهة أصلاً إلى المواطن الغربي الذي يحتاج توضيحاً وحلاً لصور المهاجرين غير الشرعيين عبر البر والبحر، الناجين منهم والقتلى. إنما لن تكون الالتفاتة أبداً على حساب العوامل الداخلية، الاقتصادية والأمنية، كما نرى في اختلاف المثالين الألماني والفرنسي.
المؤسف أننا، نحن السوريين، صرنا ضحية اليأس من العالم، وأصبح العامل الإنساني أقوى لدينا أيضاً من السياسي بفعل ذلك اليأس. أصبحت الهجرة مطلباً لشرائح متزايدة من السوريين لانعدام الأمل من حل قريب، بما فيها تلك الشرائح التي لا تتعرض لخطر مباشر أو فاقة كبيرة، غير أنها تملك هواجس مشروعة إزاء مستقبلها ومستقبل إقامتها في دول لا تمنحها وضعاً قانونياً مستداماً. الغرب هو الوجهة الوحيدة المتاحة لفاقدي الأمل، وبالتأكيد للباحثين عن خلاص فردي، وقد دللت تجارب سابقة مماثلة على ندرة العائدين من الغرب بعد انتهاء الحروب في بلدانهم الأصلية. خارج الشعارات والعواطف، يمكن القول بأن أغلب السوريين اللاجئين إلى أوروبا لن يعودوا إلى سوريا حتى بعد سقوط النظام، ونسبة المستنكفين عن العودة تتعاظم مع مرور الوقت بسبب خطوات الاندماج المرهقة التي يتبعها اللاجئ، وأيضاً بسبب الأبناء الذين اندمجوا سريعاً في أمكنتهم الجديدة وصار يصعب اقتلاعهم منها. ويمكن القول بأن ندرة منهم قادرة الآن على خدمة القضية السورية من المنافي الغربية، لأن الاندماج في تلك المجتمعات والتأثير بها يتطلب سنوات.
اتهام العالم بالضلوع في مؤامرة كبرى لتغيير الواقع الديمغرافي السوري لن يكون مفيداً أو صائباً، وكذلك امتداح هذه الزعامة أو تلك لمساهمتها في تسهيل الهجرة. ثمة خيار أقرب إلى السياسة، يتعين في الإلحاح المستمر على القوى الفاعلة دولياً كي تضطلع بمهماتها السياسية والإنسانية معاً، وكي لا تغلّب الأخيرة منهما على الأولى. مساعدة ناجٍ من الغرق أمر يستحق الشكر حتماً، لكن الأمر يتطلب قولاً آخر عندما تمتد يد للغريق واليد الأخرى للمجرم الذي دفع به إلى الغرق.