الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما بعد القلمون وما يسطرون

ما بعد القلمون وما يسطرون

26.03.2014
عيسى الشعيبي


االغد الاردنية
الثلاثاء 25/3/2014
أحسب أن معارك القلمون التي لم ينقشع دخانها بعد، كانت نموذجاً بارعا لفنون الخداع البصري، والتضليل الدعائي القائم على فتات الحقائق؛ ضخت فيه شبكات الإعلام الإيراني فيضاً من الصور المروجة لأفضل الانطباعات عن مسار هذه الحرب التي يصب كل قمحها في طاحونة "الممانعة"، والمبشرة بقرب حسم السجالات الدائرة حول المآلات الأخيرة لهذا الصراع، الذي تواصل طهران عبره إعادة بناء المعادلة الإقليمية القديمة وفق قواعد جديدة، تسود فيها الأقلية، بعد قرون من المظلومية، على أكثرية الأمة.
ويعيد الضخ الإعلامي حول معارك القلمون إلى الأذهان سيلاً من المبالغات والتمنيات المماثلة لما وقع في حي بابا عمرو الحمصي، حين تم تأبين ثورة الكرامة والحرية في حينه، وتم تظهير الواقعة على أنها نقطة تحول استراتيجية. كما جرى الأمر ذاته بعد معركة القصير، التي اعتبرها تحالف "الممانعة" فتحاً عظيماً يوازي فتح مكة، إنما بأعلام سوداء هذه المرة. أما عن معركة يبرود، فحدث ولا حرج عن النصر الإلهي الموعود، وعن فنون قتال سوف يتم تدريسها في الكليات الحربية المرموقة، ناهيك عن كسر الروح المعنوية، وتقويض عمق الثورة المتجذرة في الغوطتين الشرقية والغربية.
غير أن هذه "البروباغاندا" قصيرة النفس لا تصمد كثيراً أمام جملة من الحقائق الجوهرية، التي لا تتبدل بفعل ربح تكتيكي هنا أو خسارة موضعية هناك. أولاها، أنه بات لدى الثورة السورية، الموزعة على أكثر من ألف فصيل وجماعة مسلحة، جيش يربو على 200 ألف محارب، لديهم دفاعية قتالية نابعة من عقيدة دينية لا تفتر، وهو ما يعدّ أكبر جيش غير نظامي في بلد يشهد نزاعا أهليا في العالم، وذلك مقابل جيش أرهقته معارك تدور في نحو 250 نقطة اشتباك، تدوم أحيانا لعدة ساعات وأخرى لعدة أيام، ومزقته ثلاث سنوات لم يأخذ فيها الجنود استراحة محارب ليوم واحد، أو تطوع فيه مجند بإرادته الذاتية.
ثاني هذه الحقائق، أن الثورة السورية شبّت عن الطوق منذ مدة، وبلغت نقطة اللاعودة؛ إذ لم تعد محصورة في حي أو مدينة واحدة، أو مجرد خلايا سرية نائمة، أو من غير حاضنة شعبية، بل غدت تمرداً شعبيا مسلحاً ينتشر على امتداد مساحة تزيد على 200 ألف كيلومتر مربع، قادرة على استنزاف أعظم الجيوش، فما بالك بجيش لم يعد لديه سوى ذراع جوية أخرجها صانعوها من الخدمة قبل عدة عقود، وقوة نارية أثبتت المجريات عدم قدرتها على الحسم، حتى وإن كانت تملك طاقة تدميرية هائلة.
ثالثها، تتمثل في حقيقة أنه بات لدى الثورة المفتقرة لسلسلة القيادة والسيطرة، نقاط ارتكاز استراتيجية معززة، مفتوحة على خطوط إمداد عديدة، أهمها في ريف دمشق الشرقي، حيث يمسك الثوار بمساحة تبلغ نحو 400 كم مربع، أي بما يزيد على مساحة قطاع غزة مثلا. وكذلك في حلب التي كان انتزاع نصفها وكامل ريفها من قبضة النظام نقطة تحول نوعية كبرى، وعلامة فارقة في مسيرة الثورة، ناهيك عن مدن ومحافظات وطرق مواصلات ومعابر حدود، لا قدرة لجيش استهلك نفسه في نقاط موضعية متفرقة على استردادها، مهما جاءه متطوعون خارجيون قد يُكسبونه معركة تكتيكية، إلا أنهم غير قادرين على تغيير الميزان الاستراتيجي.
أما رابع هذه الحقائق، فهي تتمثل في إدراك التحالف الداعم للثورة، أن خسارته لهذه الحرب، التي باتت تدار بالوكالة، سوف تكون أوسع نطاقاً من حدود الرقعة الجغرافية السورية، وأنها ستجعل إيران صاحبة اليد العليا في المنطقة. وهو ما يملي على هذا التحالف غير السخي وغير المتماسك أيضاً، تقديم كل ما من شأنه منع إيران من تحقيق انتصار يهدد المدى الممتد من أنقرة إلى مكة.
ولعل ما تقصه علينا المجريات الحربية المنسقة الآن، وتتحدث عنه الجبهات المفتوحة على اتساعها اليوم، وذلك قبل أن تفض معارك ما بعد القلمون بطولاتها الملحمية، تؤكد أن الثورة السورية التي تختزن طاقة ذاتية لا تنضب، عصية على الاحتواء والاقتلاع، بل قادرة على التجدد والتقدم إلى الأمام، على نحو ما تتجلى عنه المعارك الناشبة على الساحل الشمالي.