الرئيسة \  واحة اللقاء  \  "ما بعد جنيف ـ2"!

"ما بعد جنيف ـ2"!

04.11.2013
د. عبدالحسين شعبان


المستقبل
القدس العربي
السبت 2/11/2013
لم يستطع النظام السوري، القضاء على المعارضة التي انطلقت شعبياً منذ 15 آذار (مارس) العام 2011 والتي تستمر حتى الآن، بصورة سلمية وسياسية وإعلامية، وإنْ أصبح قسمها الأكبر عسكرياً وعنفياً. كما أنها هي الأخرى لم تتمكّن من الإطاحة بالنظام، على الرغم من تحالفاتها الإقليمية والدولية، ولا شكّ أن الأزمة مستمرة والمأساة متعاظمة، وخصوصاً في جانبها الإنساني، سواء عدد الضحايا الذي زاد على 100.000 (مائة ألف) أو عدد اللاجئين والنازحين الذي تجاوز 8 ملايين إنسان، إضافة إلى تهديم البنية التحتية والمرافق الحيوية والاقتصادية.
خلال السنتين ونيّف الماضيتين لم يتمكّن أي من الفريقين من فرض شروطه على الآخر، وقد دخل العامل الإقليمي والدولي باعتباره عاملاً مؤثراً سلباً وإيجاباً، فلولاه لما كانت المعارضة، ولا سيّما المسلحة تستطيع الاستمرارية بالزخم ذاته بما فيها الجماعات الإرهابية المختلفة والمتفرعة من تنظيمات القاعدة سواءً "دولة العراق والشام الإسلامية"، أو جبهة النصرة، أو غيرها من مسمّيات أخرى، لبعض الجماعات السلفية التي تصبّ في الإطار ذاته، ولولا العامل الدولي والإقليمي أيضاً لما تمكّن النظام من البقاء والاستمرارية، خصوصاً في قمع المعارضة بما فيها الوطنية المدنية السلمية التي تطالب بالتغيير الديمقراطي.
وظلّت مؤسسات الدولة، ولا سيّما العسكرية والأمنية والحزبية والدبلوماسية متماسكة حتى الآن بفعل الدعم الدولي والإقليمي، وإن تعرّضت إلى انشقاقات أو انسحابات أو شهدت تمرّدات، لكنها ظلّت محدودة وأحياناً غير مؤثرة، ولا يزال الطاقم الحاكم مستمراً، حتى وإن انشق رئيس وزراء أو هرب قائد عسكري، لكن الجسم الأساسي للدولة ومؤسساتها ولا سيّما للجيش وقوى الأمن لا يزال هو الأقوى على الرغم من ضعفه.
وبفضل الدعم الدولي والإقليمي استمرّت المعارضة، وخصوصاً المسلحة، ولقيت مساندة متنوّعة، من عدد من العواصم الدولية والعربية بما فيها جامعة الدول العربية التي اعترفت بها "بديلاً" عن الحكومة السورية الرسمية، بل إن بعض الدول قَبِلَ سفراء للمعارضة في سابقة دولية جديدة، كان الكثير من الدبلوماسيات الدولية، ولا سيّما العربية تعارضها، بل يتشبث بعضها بميثاق جامعة الدول العربية، الذي يحرّم التدخل بالشؤون الداخلية ويصرّ على احترام مبادئ السيادة، وقد رفض مجلس الجامعة في أوقات سابقة من مناقشة أو إدراج أي بند على جدول أعماله يخصّ انتهاكات حقوق الإنسان.
ولكن النظام باعتباره "أقوى الضعفاء" لم يتمكن من الإجهاز على المعارضة أو إسكات صوتها على الرغم من تفوّقه، كما أن المعارضة بمفردها لم تتمكن من الإطاحة بالنظام وظلّت تتطلع، إلى التدخل الخارجي لإسقاطه، بل أن بعضها يدعو إلى ذلك صراحة ودون مواربة، بما فيه تشجيع الولايات المتحدة على توجيه ضربة عسكرية إلى سورية بحجة قيام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيمياوية ضد الشعب السوري في الغوطة قرب دمشق.
ولعلّ الكرّ والفرّ يجعل الوضع السوري أقرب إلى مصارعة على الطريقة الرومانية، تلك التي تؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاك الطرفين، بحيث يموت أحد الأطراف ويصل الطرف الآخر حدّ الإعياء الذي قد يؤدي به إلى الموت أيضاً.
إن السجال المستمر والتقدم والتراجع لجبهة المعارضة أو لجبهة النظام هو الذي دفع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للقول " لم يعد الحلّ العسكري في سوريا ممكناً" وهو ما يعكس فشل الفريقين المتصارعين من تحقيق اختراق بحيث يؤدي إلى ترجيح كفة أحدهما، كما أن العنصر الدولي والإقليمي بقدر ما يريد تحقيق مصالحه "المشروعة" وغير المشروعة، فإنه بدأ يفكّر بعد تدهور الوضع الإنساني في سوريا بحل سياسي، عسى أن يضع حدًّا لهذه المأساة من خلال تفاهمات دولية تحرص على "توازن" حقوق الجميع، الدولية والإقليمية، وتطال المعارضة والسلطة في نهاية المطاف.
ولعب الوسيط الدولي ممثل الأمين العام الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي دوراً في إقناع أطراف دولية وإقليمية وسوريّة بضرورة إجراء جولة أخرى من المفاوضات استكمالاً لجنيف 1، التي تقضي تطبيق بنودها تحقيق انتقال سلمي للسلطة ومشاركة جميع الأطراف على أساس التعددية وإجراء انتخابات ديمقراطية، وبالدرجة الأساسية وقف القتال والعنف.
وافقت روسيا حليفة سوريا على عقد مؤتمر جنيف2 ووافقت حليفتها الأساسية إيران أيضاً، مثلما وافقت الحكومة السورية مباشرة، وتوافق واشنطن وقوى غربية وأطراف من المعارضة على اللقاء في جنيف، وهذه الأخيرة افترضت طبقاً لجنيف1، إطلاق سراح المعتقلين ووضع جدول زمني للانتقال السلمي بتشكيل حكومة انتقالية وتهيئة مستلزمات ذلك بإشراف دولي، لا سيّما من جانب الأمم المتحدة.
وقد فاجأ الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة مع غسان بن جدّو مدير تلفزيون الميادين رغبته في ترشيح نفسه لانتخابات العام 2014، قاطعاً الطريق بثقة كبيرة على بقاء النظام من جهة، وواضعاً مسألة جديدة مثيرة للجدل أمام جنيف2 من جهة أخرى، ولا سيّما فرضية إجراء تحوّل بنقل السلطة صوب الديمقراطية، أي بعدم وجود الرئيس الأسد، لكن التقدّم الحاصل على الأرض لجهة الحكومة السورية من جهة واستبعاد ضربة عسكرية أمريكية في الوقت الحاضر، والتقارب الأمريكي- الإيراني، والتفاهم الروسي- الأمريكي، لا سيّما بخصوص النفط والغاز واستبعاد الدور القطري، قد يكون هو ما أوحى للأسد باعلان رغبته في الترشح مجدداً لرئاسة الجمهورية، وبذلك يكون قد وضع جنيف2 في مأزق مسبق بما فيه شكوك انعقاده.
وكانت لقاءات وزيري خارجية روسيا وأمريكا لافروف- كيري الأساس في التفاهم الدولي الذي بدأ روسيّاً- أمريكياً، وذلك بهدف إبعاد رهان الحرب والتوجه نحو التغيير السلمي وفقاً لمسار جنيف، لا سيّما بعد مقايضة النظام السوري، الأسلحة الكيمياوية، بعدم توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا من جانب الولايات المتحدة، التي هدّدت بذلك وأصبحت قاب قوسين أو أدنى، لولا مسارعة الحكومة السورية بقبول تفكيك وتدمير الأسلحة الكيمياوية والتعاون مع لجنة التفتيش الدولية، وهو الأمر الذي فعله النظام الليبي الذي كان يقوده معمر القذافي في أواسط التسعينيات، مقدّما تنازلات تتعلق بسلاحه الكيمياوي ومشروعه النووي، فانتقل من كونه نظاماً منبوذاً دولياً، حيث كانت ليبيا قد تعرضت لحصار دولي منذ العام 1993، إلى نظام بدأ يتأهل دولياً ويُستقبل زعيمه في الغرب وفي الولايات المتحدة، إلى أن جاء الربيع العربي الذي أطاح به وبنظامه، مثلما أطيح قبل ذلك بزين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر وفيما بعد تنحيّ علي عبدالله صالح في اليمن.
وإذا كان الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي قد حدد 23 تشرين الثاني (نوفمبر) القادم موعداً لانعقاد جنيف2، فإن الأخضر الإبراهيمي يدرك بدبلوماسيته المكوكية العتيدة صعوبة ذلك، لا سيّما تعقيدات المشهد السوري الذي يعيشه يومياً، ولهذا لم يحدد موعداً لانعقاد المؤتمر، الذي يرجّح عدم انعقاده من خلال المعطيات الجديدة.
وسواء انعقد جنيف2 أو لم ينعقد، فإننا سنكون أمام خيارات جديدة ما بعد جنيف2، وهي أما "الرحيل السلس" بتفاهمات دولية وإقليمية، في سيناريو يضم أجزاءً من السلطة والمعارضة وبإشراف دولي، إدراكا لمخاطر الانفلات الأمني على الجميع، لا سيّما في ظل وجود الانقسام المجتمعي الديني والطائفي والإثني وتأثيراته على دول المنطقة، أو خيار التأهيل الطويل الأمد، وهذا يتطلب أيضاًَ مشاركة وإصلاحات داخلية، مع ضمانات دولية، وبذلك أيضاً سيتم تجاوز جنيف2.
لعلّ انعقاد أو عدم انعقاد جنيف2 سيضع الحكومة والمعارضة أمام هذين الخيارين أو أن المجابهة ستكون أكثر طولاً وأشدّ ضراوة باستمرار الحصارالاقتصادي والعسكري والسياسي وتشظي الوضع المجتمعي وارتفاع منسوب المأساة الإنسانية، خصوصاً وأن الحسم لم يعد قراراً داخلياً فحسب، بقدر ما هو قرار اقليمي ودولي، ولعل تأخّر مثل هذا القرار سيجعل سوريا تعيش مصارعة على الطريقة الرومانية بكل معنى الكلمة!
() كاتب وحقوقي عراقي