الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما قاله أيمن الظواهري وما أغفله

ما قاله أيمن الظواهري وما أغفله

28.01.2014
علي الطالقاني


الحياة
الاثنين 27/1/2014
بعد طول انتظار، جاءت كلمة زعيم تنظيم القاعدة في شأن الاقتتال الدائر في سورية بين مجموعاتٍ من الكتائب المسلحة المناهضة للأسد وبين "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، والمعروفة اختصاراً بـ "داعش".
والملاحظ بدايةً أن الظواهري تجنب التحدث من موقع القيادة، بعد أن صار هذا الأمر موضع خلاف، إثر شيوع الرأي بين قسمٍ كبيرٍ من مسؤولي داعش وشرعييها ومقاتليها وأنصارها بأن البيعة التي في رقبتهم هي لأبي بكر البغدادي، بوصفه أميراً للمؤمنين في دولةٍ إسلاميةٍ قائمة، وأنهم ليسوا أعضاء في تنظيم القاعدة، الذي حلّ فرعه العراقيّ نفسه عندما أسهم مع مجموعاتٍ أخرى في قيام "الدولة" منذ 2006. وأن علاقتهم بالظواهري إنما تقتصر على احترام تاريخه الجهاديّ، ولا تلزمهم بطاعته بحالٍ من الأحوال، وهو ما يفسّر عدم انصياعهم لأمره السابق بالانسحاب إلى الأراضي العراقية وترك الساحة السورية لجبهة النصرة، الفرع المعتمد لتنظيم القاعدة، والمبايع لأميرها بيعة جهادٍ أو بيعةً حركية، هي أدنى من البيعة العامة التي بايعوا عليها البغدادي.
وإذ يعي وريث أسامة بن لادن ذلك، فإنه يوجه خطابه هذه المرّة إلى "المجموعات الجهادية" في سورية عموماً، مستنداً إلى "أخوة الإسلام التي بيننا، [والتي] هي أقوى من كل الروابط التنظيمية الزائلة المتحولة"، من دون أن ينسب لنفسه أهلية الأمر وإصدار القرار والإلزام به.
أما ما يقوله مطلعون من البيت الداخلي فهو أن كلمات الظواهري العامة تكون مصحوبةً أو مسبوقةً في العادة برسائل مكتوبةٍ للمعنيين، وأنها هذه المرة سبقت برسالةٍ شديدة اللهجة إلى داعش، ربما تهددها بإعلان المفاصلة وحلّ الإبهام التنظيميّ الشكليّ ـ ولكن المؤثر جداً ـ بين الجماعة والدولة، بطريقةٍ تصبح فيها داعش كياناً باتّ الانفصال عن القاعدة، التي قد تعمد إلى إعادة تشكيل فرعٍ لها في العراق، من قدامى أعضائها في هذا البلد. مما يعني رفع الغطاء الرمزي عن "الدولة" ـ التي سبق لبن لادن نفسه أن بارك قيامها، وتابعه الظواهري على ذلك، عندما اقتصرت على العراق فقط ـ وسحب تزكيتها أمام مجاميع السلفية الجهادية التي تمدّها بالمهاجرين والمال.
ولكن، سواءً صحّ خبر هذه الرسالة أم لا، فإن معالم منها تبدو بوضوحٍ في كلمة الظواهري العلنية. وأبرز هذه المعالم هي عدّه داعش أحد التنظيمات المجاهدة لا "دولةً" شرعية، وهو جذر كل خلافها مع سواها من القوى، وأساس تسلطها على حياة الناس، ورفضها لمحاكم مستقلةٍ عنها. وثاني ملامح الإدانة رفض الكلمة اتهام المخالفين بالكفر والردّة، وهو المستند الذي انطلقت منه داعش لقتال خصومها ممن افترضت أنهم "صحوات سورية" لمتآمرين مع الغرب، مما يبرّر لمقاتليها استهدافهم بالمفخخات وغيرها.
ولم يخف هذا الأمر على قيادة داعش بالطبع. وإذا صحّت الرواية أن فيها ـ ككل جماعةٍ بشرية ـ صقوراً وحمائم، فقد أوعز الصقور لشرعيي "الدولة" وإعلامييها برفض كلمة الظواهري، بداعي عدم الإلزام الأصلي أولاً، لانعدام البيعة، وتحت حجة أن الـظـواهري بـعيـدٌ عن معرفة الـواقـع بدقة، وأن آراءه فيه واقعةٌ تحت تأثير من ينقل إليه الصورة من الخصوم، كالجولاني أمير فرعه المعتمد، وأبي مارية القحطاني الرجل الـثاني في النصرة وشــرعـيـها الأول، وأبي خالد السـوري الذي سـبق أن حكّمه الظواهري في خلاف الجـبهة وداعش، التي تعدّه الآن من أبرز خصومها وأكـثرهم تأثيـراً في صفوف الحرس القديـم من تنـظيم الـقاعـدة، الـذين أعلن الكثير منهم موقفه المستنكر لتعنت جماعة البغدادي. بينما رحبت جبهة النصرة بالكلمة، ودعت إلى الالتزام بما جاء فيها من وقف الاقتتال والتحاكم إلى قضاءٍ مستقلٍّ وملزم، وهو ما كانت النصرة والجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين، وسواهم، يطالبون به.
ولكن ما أغفله الظواهري ـ أو غفل عنه ـ أشدّ خطورة. فالرجل، الذي ينطلق من موقعه كمرجعٍ أعلى للسلفية الجهادية، يتناسى بسهولةٍ أن ما حدث في 3 كانون الثاني (يناير) ليس خلافاً بين "المجموعات الجهادية في شام الرباط"، بل انتفاضةً عارمةً من مجمل السوريين الواقعين تحت حكم "الدولة"، من مدنيين ومقاتلين في الجيش الحرّ، من ظلم داعش وطغيانها وخنقها لمجالات العمل المدنيّ والعـسـكريّ، باعتقالها الناشـطين والإعلامـيين وسـواهم في سـجونٍ مروّعة، وتقويضها المجالس المحلية التي أقامها السوريون كهيئات حكمٍ موقتةٍ وخدميةٍ صغرى في المناطق المحرّرة، واستيلائها على مخازن وشحنات الإغاثة والأدوية، بذريعة قدومها من جهاتٍ أجنبيةٍ وعدم الثقة في موزّعيها. ومن جانبٍ آخر إضـعافها لألوية الجيش الحرّ المـحلية، باستهداف قادتها من ضباطٍ منشقين وسواهم بالقتل أو الـسـجن، وبالاستـيلاء على مقارّها ومخازن أسلحتها وذخيرتها، والتحكم في طرق الإمداد، مما يهدّد هذه المجموعات بالاختناق. وهنا يجب ألا يغيب عن الذهن أن المواجهة اندلعت مع هذه "الدولة" السرطانية عندما كانت تهمّ بالاستيلاء على مدينة الأتارب على طريق معبر باب الهوى، وهو طريق الإمداد الوحيد المتبقي من تركيا، بعد أن أحكمت داعش سيطرتها على بلداتٍ وقرىً وطرقٍ مجاورةٍ للمعابر الأخرى، وتحكمت في ما يمرّ منها من معوناتٍ وسلاحٍ ولمن يمرّ.
إذاً، إن أجندة داعش، المختلفة كلياً عن أجندة الثورة السورية، مدنياً وعسكرياً، هي سبب الخلاف الجذريّ الذي لا بدّ وأن يقود إلى الصدام. أما نظر "حكيم الأمة" إلى الموضوع على أنه خلافٌ بين "المجموعات الجهادية" بفعل "مظالم" تدعيها كلٌّ منها على "أختها المجاهدة" فمصدره الذاكرة الأفغانية. وهو يشبه ما تردّده داعش نفسها، من أن الاحتكاكات أمرٌ ملازمٌ لساحات الحروب. أما ما هو أشـدّ فهو اقتـصـار بعض الـجماعات المناهـضة لداعـش عـلى تكرار "مظالمها" الخاصّة فحسب. وإذا كـان هـذا مفهـوماً في حـالة جــبهة الـنـصرة "الشـقـيقة"، التـي لم تعلن بياناً حاداً ضد "الدولة" إلا عندما ثبت إعدام الأخـيرة لأبـي سعـد الحـضرميّ، أمير الجبهة في الرقة؛ فإنه معيبٌ بحقّ أحرار الشام، التي ما فتئت تردّد أسماء قتلاها على يد داعـش، فيما أهملت أسماء بقية القتلى من السوريين، والمكتشفة في مقابر جماعيةٍ قرب المقرّات التي أخلتها داعش، أو الذين لم تهتم لدفنهم إذ أعدمتهم بسرعةٍ قبل الانسحاب!
ببساطة، ما أغفله الظواهري هو أن في سورية ثورة، وأن أبناءها هم الذين حطموا هيبة، ثم مباني، أجهزة الأمن التي كانت تتخطّف جنوده من "ليوث الجهاد" قبل أن تكمل خليتهم النائمة شهرها الثاني. وأن مظالم السوريين عند ابنه العاقّ هي جرائم كبرى واستراتيجية وإنسانية، وتفوق مظالم أبنائه البررة، الذين يدعوهم إلى التفاهم مع أخيهم الأرعن!