الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مجْدة والوحش في "الصراع على سورية"

مجْدة والوحش في "الصراع على سورية"

24.05.2014
مرح البقاعي



الحياة
الجمعة 23/5/2014
"في أواخر القرن التاسع عشر، هبط ذات يوم مصارع تركي مجهول الهوية من قرية من قرى جبال سورية الشمالية الغربية، وبصوت راح صداه يرن في أرجاء القرية، عرض أن يتحدّى كل المقبلين". تجمهر القرويون حوله للتفرج والتمتع، لكنهم ما لبثوا أن أخذوا يتأوهون وهم يشاهدون أقرانهم يتساقطون الواحد تلو الآخر أمام التركي الذي بدا أنه لا يقهر. وفجأة برز من بين الصفوف رجل قوي البنية في الأربعينات من عمره، وأمسك به من وسطه ورفعه في الهواء ثم طرحه أرضاً. فصاح القرويون معجبين: "يا له من وحش! إنه وحش". كان اسم بطلهم هذا سليمان ولكنه منذ ذلك الحين أصبح يعرف باسم "سليمان الوحش". وظل "الوحش" لقبه العائلي حتى العشرينات. كان هذا الرجل هو جدّ حافظ الأسد".
هكذا، قدّم الصحافي والكاتب السياسي الراحل، باتريك سيل الذي غادر عالمنا الأرضي يوم 12 نيسان (أبريل) الماضي، لكتابه الشهير: "الأسد... الصراع على سورية"، الصادر في 1988، والذي جاءت نسخته العربية في عنوان: "الأسد... الصراع على الشرق الأوسط"، بعدما قرّر الكاتب تعديل عنوان كتابه.
ولأن التاريخ عادة ما تكتبه السلطة المتربّعة على كرسيها، وتختار كبار القوم من الكتّاب لتبث لهم تفاصيله كونهم سيضيفون باسمهم صدقية بحثية وعلمية على ذاكرة السلطة الأحادية، جاء الكتاب الذي وصل إليّ منذ صدوره بنسخته الأصلية، غير المنقّحة، وكنت عندها لم أغادر دمشق بعد، أشبه ب "الميموار" أو المذكرات الشخصية لحافظ الأسد الذي ربطته وعائلته بالمؤلف سيل صداقة أتاحت للأخير الاطلاع على معلومات لها علاقة بالصراعات الداخلية على السلطة في سورية، وكان أكثرها بأساً وتهديداً لحافظ الأسد العملية الانقلابية التي قادها أخوه رفعت الأسد لإطاحته في 1984، والتي انتهت باحتوائها قبل اندلاعها عسكرياً، وبإبعاد رفعت عن سورية بعد حلّ مجموعته العسكرية "سرايا الدفاع" محمّلاً ب "مكرمة" مالية أغدقها الأسد الحاكم على أخيه الانقلابي، وخرجت من البنك المركزي السوري وأدّت إلى انهيار كامل لليرة مقابل الدولار آنذاك. والانهيارات استمرت من دون توقف حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
مشكلة باتريك سيل تكمن في انحيازه الشديد لحافظ الأسد، لا سيما في قضايا النزاع الداخلي، حيث بدا الأخير في سطور سيل "مدافعاً" عن اللحمة الوطنية والسيادة، لا ديكتاتوراً ماكيافيلياً اختار لغة الرصاص لإخماد كل صوت معارض أو مطالب بالإصلاح والحريات العامة والمشاركة السياسية. وقد جنح سيل إلى وصف انتفاضة مدينة حماة في 1982 ب "الإرهاب" ووصف "الإخوان المسلمين" بالإرهابيين مستبقاً بعقود التهمة التي وجّهت إليهم حديثاً في مصر، ومتنازلاً عن الدور المفترض أن يكون حيادياً لكاتب فصول التاريخ.
ولأن "التأريخ" فعل طبيعي تحفظه ذاكرة الشعوب ولا يلغيه "تاريخ" يسطره المستبدّ بأقلام يسخّرها في حينه لتلميع صورته، أو تخليصها من كدر بصمات الجريمة، قام أحد حملة هذه الذاكرة أخيراً، وهو جندي من الوحدات الخاصة التي اشتركت في مجزرة حماة، بنشر رسالة اعتراف عن طبيعة أعمال الإبادة الجماعية التي أمر بها حافظ الأسد آنذاك لإنهاء ثورة المدينة ووأدها وأهلها تحت أنقاض حجارتها. والرواية مشهد واحد من مئات مشاهد القتل الكيدي والعمد الذي مارسته قوات الأسد على المدنيين من دون تمييز في مجزرة هي الأفظع والأكثر دموية، غدت راسماً ودليلاً على سيرة المجازر المتنقّلة بين المدن السورية التي يمارسها اليوم وريث عرشه: بشار الأسد.
شهادة الجندي جاءت سرداً مطوّلاً لوقائع حقيقية عن مجزرة حماة المروعة التي ارتكبت على يد آل الأسد بين 1980 و1982، ضد مواطنين أبرياء مسالمين في تلك المدينة المغدورة التي طُوقت وأهلها، فارتكبت فيها المجازر ودكّت بالمدافع والصواريخ، وخلّفت ضحايا يعدّون بعشرات آلاف المدنيين العزل. بطلا تلك المجزرة كانا رأس الدولة حافظ الأسد وأخاه رفعت الأسد. الرجل الشاهد كان جندياً برتبة عريف في الجيش، وكان واحداً من عديد العسكر الذين شاركوا فيها، وعمره آنذاك ثلاثون عاماً. أما اليوم فهو شيخ في الستينات أرهقه الكتمان فقرر أن يبوح بالمشاهد الذي تغصّ ذاكرته بدمه المسفوك:
المشهد 1:
في ليل يوم السبت جاءنا أمر من قائد سريتنا بالتوجه للقبض على شابين هما أيمن مرقة (18 عاماً) وأخوه مجد مرقة (14 عاماً) بعد أن تمّ تزويدنا بعنوان منزل عائلتهما.
وصلنا وطرقنا الباب، وكان هذا أول بيت نطرق بابه بأيدينا، فقد كنا نكسر الأبواب وندخل فجأة إلى البيت لإرهاب ساكنيه وإخضاعهم قبل تصفيتهم. فُتح الباب فدخلنا فوراً ووجهنا بنادقنا نحو العائلة، وكنا حوالى 12 عسكرياً وصف ضابط، ورأينا ثلاث بنات وأماً وأباً. سألنا الأب والأم: أين أيمن مرقة ومجد مرقة، فقال لنا الوالد إنهما عند بيت ابنته الكبرى يزوران ويدرسان من أجل الامتحانات بعد أسبوعين.
المشهد 2:
أخذنا الأم وطلبنا منها أن توجهنا إلى منزل ابنتها في منطقة الحاضر، وحين وصلنا كسرنا الباب ودخلنا فوجدنا أربعة أطفال نائمين على الأسرّة، والأم والأب نائمين على الأرض. وفي الركن رأينا شاباً عمره حوالى 18 عاماً بدا هادئاً بوجهه الأبيض المنير، وكانت الكتب بين يديه يدرس في هذه الساعة المتأخرة، وإلى جانبه طفلة جميلة جداً وكانت الكتب أيضاً بين يديها وكانا الوحيدان المستيقظان.
المشهد 3:
إثر اقتحامنا البيت استيقظ كل نائم، وبدأ الأطفال بالبكاء والصراخ من الخوف. سألنا الشاب: ما اسمك؟ قال: أيمن مرقة! سألنا الأم التي معنا: أين ابنك مجد؟ قالت: ليس عندي ولد اسمه مجد، عندي هذه البنت اسمها مجدة! قلت للرقيب: هناك شيء خطأ، نحن أتينا إلى هنا لنقبض على شابين أيمن ومجد، وهذه بنت صغيرة اسمها مجدة! اتصل الرقيب ونقل الصورة إلى الضابط: سيدي نحن وجدنا أيمن ولا يوجد شاب اسمه مجد ولكن هناك بنت اسمها مجدة وهي أخت أيمن ماذا تريدني أن أفعل؟ قال له الضابط اقبض على الاثنين واعدمهما فوراً! قال الرقيب: حاضر سيدي"!
لم يصل هذا المشهد إلى مسامع باتريك سيل ليسجّله في كتابه الشاهد على سيرة حافظ الأسد حتى 1987. وحين سأل الكاتب الأسدَ ما آخر جملة يريد أن يختتم بها الكتاب قال: "قل إن الصراع ما زال مستمراً"!
* كاتبة سوريّة