الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محادثات جنيف ونهاية الحروب الأهلية

محادثات جنيف ونهاية الحروب الأهلية

26.01.2014
د. صالح عبد الرحمن المانع


الاتحاد
25/1/2014
بدأت يوم الثلاثاء الماضي محادثات جنيف لإنهاء الحرب الدموية التي يشنّها الأسد ضد شعبه. وقد شهدت هذه المحادثات ولادةً عسيرة، حيث إنها في الأصل كانت فكرةً طرحتها روسيا من أجل تخفيف الضغط والانتقاد الموجه إليها في دعمها السافر لنظام الأسد. كما وجدت الدول الأخرى في هذه المفاوضات مخرجاً دبلوماسياً يرفع عنها الحرج في تمنّعها عن إمداد قوات المعارضة بما تحتاجه من عتاد. وشهدت المفاوضات قبيل ساعات قليلة من بدئها إشكالات المشاركة الإيرانية، التي كادت تئدها قبل بدئها.
ومع أنّ العديد من المحلّلين لا يُبدون الكثير من التفاؤل تجاه نجاح هذه المفاوضات، إلا أنّ عقدها في حدّ ذاته كان هدفاً طالما تطلّعت لحدوثه العديد من الدول الكبرى.
وكان واضحاً من خطابات المشاركين في حفل الافتتاح النبرة الانتقادية لسياسات الحكومة السورية، غير أنّ هذه السياسات لم تكن يوماً لتتأثر بمثل هذه الانتقادات في ضوء سياسة الأرض المحروقة والشعب المقتول، أو المشرّد، التي تنتهجها قوات الأسد.
وبدا واضحاً من الإسهاب الذي مارسه وليد المعلّم، وزير الخارجية السوري، في خطابه، أنّ الهدف من وجود الوفد السوري هو إطالة أمد التفاوض، وليس الوصول إلى حلول جذرية للحرب السورية.
وللمسألة السورية شقّان، أحدهما عسكري والآخر دبلوماسي، وسيكون الشقّ الأخير انعكاساً ومرآة للشقّ العسكري. فعلى الأرض تحقق قوات الأسد مكاسب عديدة، على رغم عدم قدرتها على السيطرة على حلب في الشمال، ودرعا في الجنوب، أو على ريف دمشق نفسه. كما أنّ لها اليد الطولى في الحصول على العتاد والإمدادات، وكذلك المقاتلين الذين يصلون إليها، ليس فقط من "حزب الله" أو إيران والعراق، ولكن أيضاً من بلدان غرب أفريقيا. وقد أثارت ورقة قدّمها الباحث د. سعود السرحان، في ندوةٍ عُقدت مؤخراً، عن المقاتلين الأجانب الذين جندتهم كلاً من إيران و"حزب الله" للقتال في سوريا، اهتمام كثيرين. وقد أحصى عددهم ليصل إلى حوالي 15 ألف مقاتل، منهم 1000 إلى 1500 مقاتل من الحرس الثوري الإيراني، وتسع منظمات عسكرية أخرى. كما قدّم قائمة بأهم الضبّاط الإيرانيين الذين قُتلوا في المعارك في سوريا، ومنهم الجنرال حسن شاطري، والعميد محمد جمالي زادة، والجنرال أبو الفضل شيروانيان.
وعلى رغم ما يقال بأنّ ما يدفع هؤلاء المقاتلين هو حماسهم الديني، وما تضفي عليه الحكومة السورية من بُعدٍ طائفي، فإنّ هذه الحرب القذرة لم تحظَ بموافقة أربعة من مراجع الشيعة الكبار في العراق، ومنهم السيد السيستاني. والحقيقة أنّ حرب الأسد ضد شعبه، مثلها مثل أي حرب أهلية أخرى ستستمر طالما كان ميزان القوى العسكري يميل لصالحه، غير أنّ منظِّر الحرب الشهير "كلاوسفيتز"، في كتابه عن الحرب، يرى أنّ مثل هذا الميزان غير كافٍ لتفسير مسار الحرب، فالبُعد الأخلاقي وحماس المقاتلين وشجاعتهم تؤثِّر في مسار الحرب، وفي طول أمدها.
وإذا ما نظرنا إلى حربٍ قريبة، ولكنها لا تتمتّع بنفس سمات الحرب السورية، فإنّ الحرب الأهلية الأخيرة في لبنان استمرّت زهاء خمسة عشر عاماً، حتى تمّ إنهاك جميع المشاركين في تلك الحرب، واضطروا إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات في الطائف عام 1989.
ولا يكفي الإنهاك العسكري لتفسير نهاية الحروب الأهلية، فتدخّل الدول الإقليمية مهمّ جداً لدفع الأطراف المتقاتلة لإيجاد صيغة حلول سلمية، فالحرب الأهلية في لبنان عام 1958، توقّفت بسبب تدخّل القيادة المصرية في اقتراح حلول بديلة، وإدخال قائد الجيش حينئذ (فؤاد شهاب)، كشخصية محايدة يمكن أن تقود البلاد إلى شاطئ الأمان.
وفي الحرب الأهلية في شمال مالي، في منتصف التسعينيات، ساعدت الوساطات السعودية والجزائرية في وأد الحرب، وإشراك قادة حركة "الأزواد" المقاتلة في حكومةٍ ديمقراطية جديدة تحكم من العاصمة باماكو. ولكن النقطة الرئيسة في إنهاء تلك الحقبة من الحرب، هي تحوّل الحكومة المالية حينئذٍ من حكومةٍ عسكرية إلى حكومةٍ ديمقراطيةٍ جامعة لمعظم الفئات والقبائل في البلاد.
ولا يمكن القول إنّ الحروب الأهلية تنتهي بنجاح مفاوضات السلام، فمثل هذه الاتفاقيات ربما تمثّل نقطة هدوء أو مجرد وقف لإطلاق النار، ربما تعقبه تفصيلات سياسية تنصّ على تغيير في النظام السياسي القائم وقواعده. فحرب 1860 في لبنان، وما سُمِّي حينئذٍ بأحداث الستينات، لم تنتهِ إلا بتدخّل السلطنة العثمانية، وتعيين داوود باشا كحاكم مسيحي تحت دولة مسلمة، والياً على لبنان. وسادت البلاد حالة من الهدوء لأكثر من نصف قرن، إلا أنّ أزمة 1958، أدخلت البلاد من جديد في منعطفٍ تاريخي، سرعان ما خرجت منه بفضل التدخلات الدبلوماسية الحميدة. واستمرّت تلك الهدنة لقرابة عقدين لتشتعل الحرب مجدداً في منتصف السبعينيات. وبعد أكثر من عقدين من السلم في لبنان بعد اتفاقية الطائف، يكاد لبنان ينزلق اليوم في حربٍ أهلية طائفية جديدة.
أما بالنسبة لسوريا، فإنّ الدول الكبرى التي خذلت الشعب السوري بعدم دعمها لمقاومته، الواجب الأول عليها هو الضغط على النظام السوري لوقف إطلاق النار على شعبه ووقفه عن ضرب المدن والسكان بالبراميل والصواريخ الحارقة. والثاني فتح ممرات إنسانية آمنة لنقل الغذاء والدواء للمدنيين والجرحى في المدن السورية. وثالث الواجبات، فكّ الحصار الجائر على القرى السورية والمخيّمات الفلسطينية، خاصةً مخيّم اليرموك، الذي بدأت الناس فيه بأكل الجيفة ولحوم القطط والكلاب لتسد رمق جوعها.
كما أنّ مثل هذه المفاوضات قد يستمر إلى ما لا نهاية، لأنّ الأسد وأزلامه لا يريدون التنازل عن سلطتهم الجائرة على شعبهم. ولذلك، فإنّ تزايد الضغط الدبلوماسي على النظام السوري، وعلى حلفائه، ومواصلة دعم قوات المعارضة، من شأنه أن ينهك نظام الأسد وينهك حلفاءه الذين يريدون استمرار هذه المعارك، وحرق المدن، طالما بقيَ هذا الديكتاتور في سدة الحُكم.